خلف عناوين الأخبار التي تتحدث عن «بريكست»، هناك ثورة مضادة تعتمل في هدوء داخل المملكة المتحدة خلال السنوات الأخيرة. وكان في حكم المؤكد أن تمتد تأثيرات هذه الثورة إلى ما وراء القنال الإنجليزية، عندما نُصبت المشانق على نحو غير متوقع مؤخراً لساجد جاويد، وزير الخزانة البريطانية.
جدير بالذكر أن جاويد من التلاميذ الأوفياء للفيلسوف الليبرتاري أين راند، وكان يعمل سابقاً لدى «دويتشه بنك». وطُرد جاويد من حكومة بوريس جونسون بصورة أساسية، لأنه بدا أشبه بجندي مشاة للثورة الآيديولوجية التي وقعت في ثمانينات القرن الماضي، في بريطانيا في البداية ثم من بعدها في الولايات المتحدة.
في تلك الفترة المضطربة، سادت التوجهات المبالغة في التركيز على الفردية وحرية السوق التي انتهجتها مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان عبر أرجاء الغرب. وهدفت ثاتشر إلى «تحجيم حدود الدولة»، بينما ادّعى نظيرها الآيديولوجي ريغان أن «الحكومة ليست الحل لمشكلاتنا، وإنما الحكومة هي المشكلة».
تبعاً لوجهة النظر هذه، فإن الدور الاقتصادي الرئيسي، إن لم يكن الشرعي الوحيد، للحكومة يدور حول ضمان استقرار الأسعار وليس التدخل بشكل متكرر لوقف التفاوت وحماية الأفراد الأضعف من السكان.
إلا أننا نجد اليوم الكثير من المواطنين الذين تضرروا من العواصف الاقتصادية العالمية، يتطلعون نحو الحكومة من جديد بوصفها عنصراً ضرورياً في الاقتصاد الوطني.
في الحقيقة يعد جاويد أحدث الضحايا في جهود مضادة للثورة. ويتمثل ضحايا آخرون أكبر بكثير في الأحزاب ذات الميول اليسارية عبر أوروبا، مثل حزب العمال.
وبعد أن أُعيدت تسميته «حزب العمال الجديد» تحت قيادة توني بلير، اعتنق الحزب التوجهات الثاتشرية -لدرجة أن ثاتشر نفسها أشارت إلى بلير بوصفه وريثها. وخلال الـ13 عاماً التي قضاها بالسلطة، ضغط حزب «العمال الجديد» لتنفيذ سياسات تسير على النهج الثاتشري مثل نزع التنظيمات والخصخصة، والتي غالباً ما جرى إخفاؤها في صورة «شراكات عامية - خاصة».
وبسبب إخفاقه في كبح جماح تفكيك التحول الصناعي أو التفاوت الاجتماعي المتفاقم، بدأ حزب «العمال الجديد» في فقدان قاعدة التأييد التقليدية له في أوساط الطبقة العاملة في الضواحي التي تسكنها أغلبية تعمل بقطاعي التصنيع والتعدين في شمال إنجلترا.
وجاء رئيس وزراء حزب المحافظين ديفيد كاميرون، الذي ادّعى أنه «الوريث الحقيقي» لبلير، بجانب وزير الخزانة جورج أوسبورن، ليعملا بقوة أكبر على تعزيز سياسات «التقشف» التي تسببت في مزيد من الانكماش لما تبقى من دول الرفاهة.
وجاءت المحصلة النهائية لهذه السياسات الثاتشرية في «بريكست» والتي تشكل رفضاً قوياً من جانب الطبقة العاملة في بريطانيا إزاء وضع آيديولوجي قائم منذ أمد بعيد لم يستفد منه سوى أقلية ميتروبوليتانية غنية.
ومن بين أوائل المستفيدين من هذا المزاج العام المناوئ للمؤسسة الحاكمة، كان جيريمي كوربين.
واللافت أنه خلال انتخابات العام الماضي، نافس حزب المحافظين تحت قيادة جونسون بقوة أكبر أمام حزب العمال على خطط الإنفاق. وعمد جونسون إلى إبعاد نفسه عن زملائه داخل حزب المحافظين الداعمين للتقشف والاتحاد الأوروبي أمثال كاميرون وأوسبورن. وتعهد باستغلال «بريكست» في إعادة توجيه القوانين البريطانية لصالح الشعب البريطاني، بل تخلى عن وعد سابق له بتقليص الضرائب على الشركات من 19% إلى 17%.
وبذلك نجد أن جونسون الذي ارتبط طوال حياته بدعاة السوق الحرة، كان يستجيب في ذلك إلى مزاج عام متبدل. وتبعاً لاستطلاع أجرته مؤسسة التوجهات الاجتماعية البريطانية فإن 60% أظهروا تأييدهم لمزيد من الإنفاق الحكومي.
ويتحرك جونسون بسرعة اليوم نحو إرضاء ناخبيه الجدد، مع تأميمه شركة خطوط السكك الحديدية الشمالية وتعزيز الإنفاق الحكومي. ومن الواضح أن ساجد كان يقف في طريق رئيسه، مصراً على ضرورة أن تقر بريطانيا ميزانية متوازنة بحلول عام 2023.
الواضح أنه خلال فترة الهيمنة الآيديولوجية لريغان وثاتشر، تحركت الأحزاب السياسية ذات الميول اليسارية والتي تنتمي قواعدها الانتخابية إلى الطبقات العاملة، نحو اليمين -أو «الوسط»، حسبما كان يحلو لها القول.
ومن بين النتائج غير المتوقعة لمثل هذا التحول أننا نجدهم اليوم يظهرون في صورة المتواطئ في حركة تفكيك اجتماعي واقتصادي ضخمة. والأسوأ أن أفكارهم المرتبطة بالحكومة التي تقدم النفع لمواطنيها تجري سرقتها اليوم من اليمين المتطرف.