لا يمر يوم إلا ويتكرر الحديث في المنصات الغربية البحثية منها والتحليلية والصحافية، وحتى في تغريدات ونقاشات المختصين الشخصية، عن السعودية الجديدة ومسألة إعادة التموضع السياسي (political repositioning) التي هي جزء من نجاحات رؤية 2030 ومهندسها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي امتد تأثيره على مستوى الكاريزما وتعميم نموذج الرؤية في ملفات الهوية والسيادة، واستراتيجيات العلاقات الخارجية التي تستعيد المكانة المستحقة للسعودية اليوم بإمكاناتها وبمشروعها للمستقبل.
وآخر الأطروحات تتناول استضافة المملكة العربية السعودية، محادثات السلام الأوكرانية من خلال دعوة الدول الغربية وأوكرانيا والدول النامية الكبرى، بما في ذلك الهند والبرازيل، بحسب تقرير حصري انفردت به صحيفة «وول ستريت جورنال» (WSJ) وعنها أغلب المنصات الأخرى والقنوات والمحللين، وجاء فيه أن ما يزيد على 30 دولة تشمل دولاً ذات تأثير كبير في محيطها الإقليمي مثل إندونيسيا ومصر والمكسيك وتشيلي وزامبيا.
ورغم محاولة التوظيف للخبر من قبل تلك الصحف ومراكز الأبحاث، سواء في قراءة مغايرة، وربما متحيزة أو محاولة تأطير حيثيات اللقاء من دون أي مصادر مؤكدة، وهو ما يخالف أبجديات المحتوى الخبري لمؤتمرات ما زالت قيد التحضير والإعلان، فإن الاستجابة الروسية للخبر كانت أكثر علانية، حيث علقت على أنها منفتحة على محادثات السلام، كما الحال تثمينها على العلاقة الوثيقة مع المملكة ودورها خصوصاً باعتبارها أهم أعضاء مجموعة «أوبك بلس».
من المبكر الحديث أو التعليق على هذه الدعوة، لكنها تأتي في ضمن سياق طويل من مشروع سعودي واضح الملامح، منذ إطلاق الرؤية والعمل على تعزيز مكانة المملكة في العالم، استناداً إلى وقائع ومنجزات جديدة على كل المستويات؛ السياسي منها والاقتصادي، وأيضاً إدارة الأزمات والمساهمة في حل كثير من النزاعات بالمنطقة والعالم، هذه التحولات أضيف لها نجاحات تتصل بالملف العراقي وتخفيض التوتر والانفراجة مع إيران، مع تقديم رؤية واضحة لحل مستدام في اليمن، ثم الانفتاح على كل دول العالم على طريقة الشراكات الإيجابية.
على مستوى الموقف الواضح من النزاعات الدولية كان موقف السعودية ودول مجلس التعاون واضحاً في إدراك تعقيدات الحرب الروسية - الأوكرانية، التي قد لا تكون متطابقة مع الرؤية الغربية استناداً إلى وجود نزاعات أخرى لا تقل تعقيداً على الرغم من تصويت دول مجلس التعاون الخليجي الست، لصالح قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تدين اجتياح روسيا لأوكرانيا، لكن ما ترتب بعد ذلك وما تلا ملف العقوبات الغربية، هو الحفاظ على مستوى محايد يسمح بعلاقات إيجابية مع روسيا وأوضح ما ذكرته سابقاً من إعادة موضعة السياسات الخارجية ضمن مناطق السيادة والاستقلالية والحياد، الذي لا يستلزم المطابقة في عالم متعدد الأقطاب، وما تلا ذلك من تنويع العلاقات الأمنية والاقتصادية والاستثمارية.
هذه التحولات في المناخ تجاه الشرق الأوسط تذكر بفترات سابقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإعادة إدراك أهمية هذا الجزء من العالم، لكنه اليوم بمعطيات ومدخلات وأيضاً مكانيزمات مختلفة، لا سيما مع صعود الصين الذي لا يزال يحظى بقلق كبير من الولايات المتحدة، وبشكل أقل من الاتحاد الأوروبي، وهو ما انعكس على استطلاعات الرأي التي قامت بها منصات غربية تجاه ذلك، وربما كان أشمل تلك الاستطلاعات ما قامت به مؤخراً مؤسسة «فريدريش إيبرت» التابعة للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الحاكم، بحسب تقرير لمعهد كارنيغي وشمل 9 دول عربية، إضافة إلى تركيا وإيران وإسرائيل، عكست تحولات كبيرة حجم الثقة بسياسات الولايات المتحدة في المنطقة، إضافة إلى تأطير للحرب الروسية - الأوكرانية ضمن سياق صراع جيوسياسي بين روسيا والغرب، وليس مجرد حرب بين بلدين وبما يشبه الإجماع في هذه الدول على أن واشنطن هي المستفيد الأكبر من حرب أوكرانيا، ونتائج أخرى مذهلة ومفاجئة على مستوى الوجود العسكري الغربي والأميركي، في مقابل مسائل أخرى أبرزها التنبؤ بعالم جديد متعدد الأقطاب.
خلاصات هذه الانطباعات والتحليلات والاستطلاعات أن ثمة شرق أوسط جديداً بمزاج مختلف وبجلد خشن لا يستطيع ابتلاع مسألة ازدواج المعايير، أو الاستهداف المتكرر لسيادة وطموحات شعوب المنطقة التي تتطلع بأجيالها الشابة؛ وهي تشكل أكبر نسبة من سكانها إلى «وطن طموح، واقتصاد ومجتمع حيوي»... بالمناسبة هذه أهم محاور رؤية 2030 عصب التحول في السعودية العظيمة!