في البداية يحسن القول: أن المفاهيم الأساسية في هذا المقال تعتمد على كتابات الكاتب السياسي الأمريكي المشهور، فرانسيس فوكوياما، الذي كتب عن فهم تطور النُّظم السياسية في العالم من التشكُّل حتى الوصول إلى الدولة الحديثة.
وأهم تلك الأسس لأي نظام سياسي في أي مجتمع، ثلاثة نظم وهي: الدولة، وسيادة القانون، والمساءلة.
الدولة
الدولة هي سلطة مركزية يمكنها ممارسة احتكار القوة الشرعية على أراضيها للحفاظ على السلام وإنفاذ القانون. فالدولة الحديثة، من ناحية أخرى، تقوم على غياب المحسوبية فيها، فترتكز على علاقة المواطن بالحاكم ولا تعتمد على الروابط الشخصية الخاصة والنفعيّة الذاتية؛ ولكنها تقوم ببساطة على مكانة الفرد كمواطن. فإدارة الدولة لا تتكون بناء على الصداقات والعلاقات؛ بل على الكفاءة التي تخدم الوطن والمواطن، أي بمعنى مبسّط: أن يعتمد التعيين في المناصب الإدارية على معايير غير شخصية، مثل الجدارة أو التعليم أو المعرفة التقنية.
وهنا وجدت المؤسسات الحديثة لتقدّم الحوافز لأنواع أخرى من السلوك (على سبيل المثال ، تفضيل شخص غريب مؤهَّل على الصديق). فالدول الحديثة الأكثر تطوراً، تميّز بين المصلحة الخاصة للحكام والمصلحة العامة للمجتمع بأكمله. فالدولة وأعضاؤها يفترض فيهم أن يسعون جاهدين لمعاملة المواطنين على أساس المواطنة، وتطبيق القوانين، وتجنيد المسؤولين المخلصين واختيارهم، واتّباع سياسات واضحة وشفّافة دون محاباة.
لماذا الحكومات ضرورية؟ لا تقوم الدولة الحديثة إلا عبر احترام النظام والاستحقاق، فيجب أن يكون هناك قطاع عام؛ لأن هناك خدمات ووظائف معينة - ما يسميه الاقتصاديون المنافع العامة – وهذه الخاصية لا يمكن إلا للحكومات توفيرها. لا توجد جهات خاصة لديها حافز لإنتاج الخدمات العامة؛ لأنها لا تستطيع منع الجميع من استخدامها والاستفادة منها، وبالتالي لا يمكنها تخصيص أي دخل ناتج عنها. ومن ثَم، حتى أكثر اقتصاديي السوق الحرة التزامًا سيعترف بسهولة أن الحكومات لها دور في توفير الخدمات العامة. إلى جانب البيئة المناسبة والدفاع عن المقدَّرات الوطنية، تشمل الخدمات العامة كالسلامة العامة والنظام القانوني وحماية الصحة العامة.
توجد اليوم مجموعة واسعة من وجهات النظر حول النطاق المناسب للدولة، بدءًا من أولئك الذين يعتقدون أنها يجب أن توفر فقط أبسط المنافع العامة، إلى أولئك الذين يعتقدون أنه ينبغي عليها تشكيل طبيعة المجتمع بشكل فعّال والانخراط في إعادة توزيع الثروات. كما لوحظ، تشترك جميع الديمقراطيات الليبرالية الحديثة في درجة معينة من إعادة التوزيع؛ لكن مدى تدخل الدولة يختلف بشكل كبير من الديمقراطيات الاجتماعية في الدول الاسكندنافية إلى الولايات المتحدة الأكثر ليبرالية من الناحية الكلاسيكية.
ومن أهم الوظائف الحكومية التالي: توفير الخدمات العامة، الدفاع والقانون والنظام، حقوق الملكية، الإدارة الاقتصادية، الصحة العامة، حماية الفقراء، التعليم والبيئة، تنظيم الاحتكار، التأمين والتنظيم المالي، التأمينات الاجتماعية، السياسة الصناعية، إعادة توزيع الثروة.
سيادة القانون
إن سيادة القانون هي قواعد ملزِمة حتى لأقوى الفاعلين سياسياً في أي مجتمع، ومصدرها الأساسي من مستمدّ من الأصول والجذور الدينية أساسًا. حيث أن سيادة القانون أقدم من الدولة نفسها. لسيادة القانون العديد من التعريفات، بما في ذلك القانون والنظام البسيط، حقوق الملكية وإنفاذ العقود، أو الفهم الغربي الحديث لحقوق الإنسان، والذي يتضمن حقوقًا متساوية للمرأة والأقليات العرقية. هي مجموعة من قواعد السلوك، تعكس إجماعًا واسعًا داخل المجتمع، وهو ملزم حتى لأقوى الفاعلين السياسيين في المجتمع، سواء كانوا ملوكًا أو رؤساء أو رؤساء وزراء. ولكي تكون سيادة القانون فعالة، يجب إعادة تجسيدها في مؤسسة قضائية منفصلة يمكنها التصرف بشكل مستقل عن السلطة التنفيذية. لقد كانت سيادة القانون قيدًا على السلطة السياسية الموجودة في إسرائيل القديمة والهند والعالم الإسلامي وكذلك في الغرب المسيحي.
يجب التمييز بين سيادة القانون وما يشار إليه أحيانًا باسم "حكم القانون". في الحالة الأخيرة، يمثّل القانون أوامر صادرة من الحكومة؛ ولكنها ليست ملزمة لنفسها. وتصبح سيادة القانون كما سنرى في بعض الأحيان أكثر مؤسسيَّةً وانتظامًا وشفافية، وأفضل مثال لذلك هو دولة الصين -حاليا-، فليس هناك قانون فوق الحزب الحاكم؛ ولكن القوانيين الموجودة حفَّزت التنمية الاقتصادية بشكل أكبر من أروربا وأمريكا، بل وتفوّق عليها مؤخرًا.
المساءلة
تطورت الآلية المركزية للمساءلة حول العالم، فكان البرلمان الشعبي، الذي يعتبر أصلاً خاصًّا بالعقلية الغربية من تاريخ المؤسسة الإقطاعية للعقارات في القرون الوسطى. مثَّلت هذه المؤسسات النُّخب في المجتمع -طبقة النبلاء العليا-، وفي بعض الحالات رجال الأعمال وتجار المدن المستقلة. وبموجب القانون الإقطاعي، كان يُطلب من الملوك الذهاب إلى هذه الهيئات لرفع الضرائب؛ لأنهم كانوا يمثّلون النخب المالكة للأصول في المجتمعات الزراعية في ذلك الوقت، في جميع أروربا الغربية.
فقط في إنجلترا كانت هناك منافسة متساوية نسبيًا بين الملك والنبلاء. عندما سعى ملوك ستيوارت الأوائل إلى بناء سلطات مطلقة، وجدوا أنفسهم محاصرين من قبل برلمان جيد التنظيم ومسلح. خاضت القوات البرلمانية حربًا أهلية ، وقُطِع رأس الملك تشارلز الأول، وأسس لفترة وجيزة دكتاتورية برلمانية في عهد أوليفر كرومويل. استمر هذا الصراع وبلغ ذروته في الثورة القائمة من 1688 إلى 1689، حيث تم خلع سلالة ستيوارت ووافق الملك الجديد ويليام أوف أورانج، على تسوية دستورية تجسّد مبدأ: "لا ضرائب بدون تمثيل" شعبي.
في حين أن هذه الأنظمة السياسية الجديدة أرسَتْ مبدأ المساءلة، فلا يمكن اعتبار لا إنجلترا في عام 1689 ولا الولايات المتحدة في عام 1789 ديمقراطية حديثة. اقتصر الامتياز في كلا البلدين على أصحاب العقارات من الذكور البيض الذين يمثلون جزءًا صغيرًا جدًا من إجمالي السكان. لم تنتج الثورة المجيدة ولا الثورة الأمريكية أي شيء يشبه ثورة اجتماعية حقيقية. قاد الثورة الأمريكية نخبة من التجار والنبلاء الذين شعروا بالغيرة من الحقوق التي انتهكها الملك البريطاني. بقيت هذه النُّخب نفسها في السلطة بمجرد تحقيق الاستقلال، وكانوا هم الذين صاغوا ووافقوا على دستور البلد الجديد.
المساءلة هي: أن تستجيب الحكومة لمصالح المجتمع بأسره -ما أسماه أرسطو بالصالح العام-. وتُفهم المساءلة اليوم على أنها مساءلة إجرائية، أي انتخابات دورية حرة ونزيهة متعددة الأحزاب تسمح للمواطنين باختيار حكامهم ومناقشتهم. لكن المساءلة ليست إجراءات فقط يمكن للحكام كـ(ممالك الحزب الواحد أو العسكرية) الاستجابة لمصالح المجتمع الأوسع دون أن يخضعوا بالضرورة للمساءلة الإجرائية. يمكن أن تختلف الحكومات غير المنتخَبة اختلافًا كبيرًا في استجابتها للاحتياجات العامة، وهذا هو السبب في تمييز أرسطو في السياسة بين الملكية والاستبداد. حيث كان يدعم الملكية التي تستجيب لشعبها، وذلك فعل أغلب الفلاسفة الغربيين، فليس المهم انتخابات؛ ولكن المهم دولة قوية تحمي حقوق شعبها ورفاهيته. علينا أن نتذكر أن الإجراءات الجيدة لا تؤدي حتمًا إلى نتائج موضوعية مناسبة.
بناء الوطن
من الأمور الحاسمة لنجاح بناء الدولة هو عملية موازية لبناء الوطن. بناء الدولة هو إنشاء مؤسسات ملموسة: جيوش، شرطة، بيروقراطيات، وزارات، وما شابه ذلك. ويتم ذلك من خلال تعيين الموظفين وتدريب المسؤولين ومنحهم المكاتب وتزويدهم بالميزانيات وتمرير القوانين والتوجيهات. على النقيض من ذلك، فإن بناء الوطن هو خلق شعور بالهوية الوطنية التي سيكون الأفراد مخلصين لها، وهي هوية سوف تحل محل الولاءات للقبائل أو القرى أو المناطق أو المجموعات العرقية. يتطلب بناء الأمة على عكس بناء الدولة إنشاء أشياء غير ملموسة مثل: التقاليد الوطنية والرموز والذكريات التاريخية المشتركة والنقاط المرجعية الثقافية المشتركة. يمكن للدول إنشاء الهويات الوطنية من خلال سياساتها المتعلقة باللغة والدين والتعليم؛ لكنها غالبًا ما يتم إنشاؤها من الأسفل إلى الأعلى من قبل الشعراء والفلاسفة والقادة الدينيين والروائيين والموسيقيين وغيرهم من الأفراد الذين ليس لديهم وصول مباشر إلى السلطة السياسية.
القومية هي: أحد أشكال سياسات الهوية التي وجدت أول تعبير رئيسي لها في الثورة الفرنسية. وهو مبدأ يقوم على وجهة النظر القائلة بأن الحدود السياسية للدولة يجب أن تتوافق مع حدود ثقافية واحدة محددة بشكل أساسي من خلال اللغة والثقافة المشتركة. ومفتاح فكرة الهوية هو فكرة أنه يمكن أن يكون هناك فصل بين الذات الداخلية الأصيلة للفرد والأعراف أو الممارسات الاجتماعية التي يقرّها المجتمع المحيط. يمكن أن تستند تلك الذات الداخلية إلى الأمة أو العرق أو الثقافة أو الدين أو الجنس أو أي خاصية تربط المجتمعات البشرية معًا.
وبناء الوطن أمر بالغ الأهمية لنجاح بناء الدولة. إن الإحساس القوي بالهوية الوطنية مكوّن ضروري لبناء الدولة الحديثة، وهو خطير أيضًا لهذا السبب. غالبًا ما تُبنى الهوية الوطنية على مبادئ العِرق أو الدين أو اللغة، وهي مبادئ تشمل بالضرورة أشخاصًا معيّنين وتستبعد آخرين. وغالبًا ما تتشكل الهوية الوطنية في معارضة متعمّدة لمجموعات أخرى، وبالتالي تعمل على إدامة الصراع حتى في الوقت الذي تقوّي فيه التماسك الاجتماعي الداخلي.
كيف وصلت بعض الدول إلى الدولة الحديثة؟
أولاً: يأتي ذلك عن طريق المنافسة العسكرية. عند الشعور بخطر مُحدِق من الدول الأخرى عسكريًا، تجبر الدول على تحديث التنظيم الحكومي لبقاء الوطن. شعرت كل من الصين القديمة وبروسيا(ألمانيا) واليابان بأنهم منخرطون في صراعات طويلة الأمد مع جيرانهم، كان ذلك أهم العوامل للتحديث. تخلق المنافسة العسكرية ضرورات أقوى بكثير من أي حافز اقتصادي. إن الحاجة إلى إنشاء جيش تضع أهمية التجنيد على أساس الجدارة؛ فيتطلب ذلك ضرائب جديدة وقدرة على زيادة الإيرادات؛ كما يتطلّب تنظيمًا بيروقراطيًا لفرض الضرائب وإدارة السلسلة المالية واللوجستية التي تزوّد القوات في الميدان.
كان الصينيون أوا من اخترع نظام الجدارة والامتحان المدني في القرن الثالث قبل الميلاد، وهي ممارسة لم تنفّذ على نطاق واسع في أوروبا حتى القرن التاسع عشر. كذلك في بروسيا(ألمانيا) أيضًا بضغوط المنافسة العسكرية ووضعت تدريجياً عناصر البيروقراطية المستقلة الحديثة التي نجت حتى الوقت الحاضر. بدأ هذا مع قرار الملك في عام 1660 بعدم حل الجيش بعد سلام أوليفا، حيث حافظ على قوة الجيش من خلال إعادة تنظيم الهيكل الإداري للبلاد بأكمله. أدت هزيمة بروسيا على يد نابليون عام 1806 إلى فتح البيروقراطية للطبقات الوسطى في ظل إصلاحات شتاين-هاردنبرغ. وخلق إنشاء البيروقراطية النخبوية القائمة على الجدارة تحالفًا سياسيًا مطلقًا لدعم استقلالية البيروقراطية المستمرة. بعد ذلك، في أي وقت يحاول فيه سياسي أو حزب سياسي وضع معيّنين سياسيين في البيروقراطية، يواجة بمعارضة كبيرة، وسيضطر السياسي إلى التراجع. أما في بروسيا تم تنفيذ هذا الحكم الذاتي ببعدٍ آخر، بحيث وجد القادة المنتخبون ديمقراطيًا أنه من المستحيل إخضاع الجزء العسكري من البيروقراطية، وإلى يوما هذا، لا يستطيع أي حزب ساسي في ألمانيا بتوظيف في موسسات الدولة أو إقالة أفردها. فعندما تغيب الحكومة في برلين، لا يغيب عمل المؤسسات فيها؛ لأنها مستقلة تمامًا. والسبب يعود إلى الصراعات العسكرية في القرون الماضية التي عزّزت من استقلالية الجيش.
بدأت (بروسيا) في بناء دولة قوية لأسباب لا علاقة لها بالتنمية الاقتصادية. لكنها كانت ضرورية لبقاء الوطن. وبينما حدث بناء الدولة في ظل حكومات استبدادية، فقد كان له -كما رأينا- تأثير إيجابي على تطوير سيادة القانون في البلاد. فحكمت البيروقراطية من خلال القانون، بينما لم تقبل الدولة مبدأ المساءلة الديمقراطية، وكانت سيادتها تعتمد بشكل متزايد على فكرة أن البيروقراطية هي الوصيّ على المصلحة العامة.
ثم أدى الجمع بين الدولة الحديثة وسيادة القانون إلى تمهيد الطريق لانطلاق النمو الاقتصادي الذي بدأ في منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا. وأشار المؤرخ الاقتصادي ألكسندر غيرشينكرون إلى أن الدولة في أواخر تطور ألمانيا لعبت دورًا أكبر بكثير في تعزيز النمو الاقتصادي مما كانت عليه في إنجلترا، وهي دولة كانت تتمتع بقدرة عالية في بداية عملية التصنيع. ثم أدى النمو الاقتصادي إلى ظهور الطبقة العاملة وتعبئتها تحت راية الاشتراكية الديمقراطية الألمانية. فمرّ الطريق الألماني إلى الديمقراطية الليبرالية بالحرب والثورة والقمع في أوائل القرن العشرين. كان للتطور المبكر لدولة قوية ومستقلة تأثير سلبي للغاية على المساءلة الديمقراطية، مما ساعد على دفع البلاد إلى الحرب العالمية الأولى ثم تقويض ديمقراطية. ظهرت ديمقراطية ليبرالية مؤسسية بالكامل فقط مع ولادة جمهورية ألمانيا الاتحادية في عام 1949. وهو نفس المسار الذي حصل في اليابان.
ثانيًا: أو الطريق الثاني لتحديث الدولة كان من خلال عملية الإصلاح السياسي السلمي الداخلي، على أساس تشكيل تحالف من الفئات الاجتماعية المهتمة بالحكومة الفعالة وغير الفاسدة. تقوم عملية التحديث الاجتماعي والاقتصادي على أساس تشكيل مثل هذا التحالف. فإن النمو الاقتصادي غالباً ما يقود التعبئة الاجتماعية من خلال تقسيم موسّع للعمل. حيث يؤدي التصنيع إلى الحداثة، وهو ما يتطلب مستويات أعلى من التعليم، والتخصص المهني، ومجموعة من التغييرات الأخرى التي تنتج فاعلين اجتماعيين جدد غير موجودين في مجتمع زراعي. هذه الجهات الفاعلة ليس لها مصلحة قوية في النظام؛ يمكن أن يتم احتوائهم من قبل النظام، أو يمكنهم تنظيم ائتلاف خارجي لتغيير القواعد التي يعمل بها النظام. وهذا ما حصل في بريطانيا والولايات المتحدة. كان كلا البلدين من أوائل الدول الصناعية، وقادت مجموعات الطبقة الوسطى الجديدة التي تم تشكيلها حملة لإصلاح الخدمة المدنية التي كانت تعبيراتها التشريعية هي إصلاح.
وتحتوي التجربة الأمريكية على بعض الدروس المهمة للبلدان النامية المعاصرة التي ترغب في إصلاح الأنظمة السياسية من المحسوبية وإنشاء حكومات حديثة قائمة على الجدارة وذات كفاءة فنية. الأول هو: أن الإصلاح عملية سياسية عميقة وليست تقنية. هناك بالطبع خصائص تقنية لنظام بيروقراطي حديث مثل تصنيفات الوظائف ومتطلبات الامتحان وسلالم الترقية وما شابه؛ لكن الأنظمة المحسوبية موجودة لأن المسؤولين العاملين فيها، أو السياسيين الذين يقفون وراءها، بطريقة ما لا يفهمون كيفية تنظيم وكالة فعالة. وتوجد المحسوبية لأن شاغلي الوظائف يستفيدون من النظام، إما كرؤساء سياسيين يمكنهم الوصول إلى السلطة والموارد، أو أصدقاء لهم يحصلون على وظائف وامتيازات.
الدرس الثاني: هو أن التحالف السياسي المؤيد للإصلاح يجب أن يقوم على مجموعات ليس لها مصلحة قوية في النظام الحالي. وتأتي هذه المجموعات بشكل طبيعي كنتاج ثانوي للنمو الاقتصادي والتغير الاجتماعي. فالمصالح التجارية الجديدة الخالصة من نظام المحسوبية الحالي، والمهنيون من الطبقة الوسطى الذين يبتعدون عن السياسة إلى الجودة التصنيعية للبلد.
الدرس الثالث: هو أنه بينما يعكس الإصلاح الحكومي المصالح المادية للأحزاب المعنية، سواء أكان سياسيون محسوبون أو ناخبون صاعدون من الطبقة الوسطى، فإن الأفكار مهمة في تشكيل رؤية الأفراد لمصالحهم. ويمكن للناخب من الطبقة المتوسطة أن يتولى وظيفة حكومية معروضة بنفس القدر، أو يقتنع بأن مصالح عائلته على المدى الطويل يتم خدمتها بشكل أفضل من خلال نظام يجنّد أفضل الأشخاص على أساس غير شخصي. والدرس الرابع: هو أن الإصلاح يستغرق وقتاً طويلاً. فقد صدر قانون بندلتون في عام 1883 للإصلاح في أمريكا؛ ولكن لم يتم وضع الغالبية العظمى من الموظفين العموميين تحت نظام تصنيف الجدارة حتى عشرينيات القرن الماضي.
وكيف الوصول الى دولة حديثة في اليمن؟
من أهم الاسباب التي أوصلت اليمن إلى حروب أهلية هو وصول التعددية السياسية قبل بناء دولة قوية. فأصبحت المؤسسات الحكومية تحت نظام المحسوبية، في غياب سيادة القانون على الجميع وعدم وجود المساءلة.
فأهم دور يمكن اليقام به حالياً، هو تقوية الدولة من خلال استقلالية المؤسسات من المحسوبية. ولن يحصل ذلك دون تحالف سياسي واجتماعي يضغط نحو التغير الجذري. وأهم تلك الموسسات التي يجب إبعاد المحسوبية منها هي: الجيش الوطني والأمن العام للمواطن؛ لأنها هي من تصنع الأمان لجميع أفراد المجتمع بعيدًا عن الانتماءات الدينية أو المناطقية أو السياسية، وعندما تُستَغل مؤسسات الأمن لمصالح سياسية أو أي مصلحة أخرى، فإنها تعتبر أداةً للعبودية وخطف كرامة الإنسان.
والمؤسسة المهمة والأهم هي: سيادة القانون. الجميع تحت القانون، دون ذلك، سينتشر الظلم والفساد معًا. وفي الجانب الاقتصادي، يجب تفعيل حقوق الإنسان، والملكية الخاصة، وتنفيذ العقود، حتى يساعد في تحريك القطاع الخاص في عمل شركات واستثمارات تخفف على الحكومة مسألة التوظيف والبطالة.
وأخيرًا: المساءلة، التي ليس المهم لإحداثها وجود انتخابات أو هيئة لمكافحة الفساد وغيرها، المهم هو وجود إحساس المسؤول تجاه احتياجات الشعب والعمل على تنفيذها. وحقيقةً: هناك اعترافات من قبل الدولة باحتياجات الشعب، فلم يبقى سوى العمل على توفيرها.
فعلينا جميعًا مسؤولية أخلاقية للوصول إلى دولةٍ حديثة، ليست النخب السياسة هي الطبقة الأولى فيها، بل جميعنا مسؤولون: قبائل، ومفكرين، وأدباء، وأكاديميين، ومعلمين، وسياسيين، ورجال أعمال وتجار...إلخ. لندفع قُدُمًا نحو التغيرات المطلوبة لبناء دولة المواطنة والحداثة، دولة قوية، الجميع فيها تحت سيادة القانون.