صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام بقوله: «إنني أختلف بشدة» مع وزيرة الدفاع الألمانية، واصفاً وجهة نظرها بشأن العلاقات عبر الأطلسي بأنها تعكس «سوء تفسير تاريخي». وكانت وزيرة الدفاع الألمانية السيدة أنغريت كرامب كارينباور قد صعدت من لهجة السجال على الفور عندما وصفت رؤية السيد ماكرون المتناقضة بأنها «محض أوهام».
يشير هذا السجال الجدلي غير المعتاد ما بين رئيس فرنسي يوصف في أغلب الأحيان بسمات القيادة والطموح وأحد أعضاء مجلس الوزراء الألماني ممن يفتقد إلى التقدير العام المطلوب إلى أن هناك أمرا ما يجري في الكواليس. وفي واقع الأمر، تتعلق المسألة بالعلاقة المستقبلية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وليس فقط من خلال مجريات الرئاسة المقبلة للسيد جوزيف بايدن، وإنما لما هو أبعد من ذلك بكثير.
ينبع الجدل من رؤية الرئيس ماكرون بأنه ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يسعى جاهداً من أجل ما يطلق عليه الرئيس الفرنسي «الحكم الذاتي والسيادة الاستراتيجية»، وهو يريد للقارة الأوروبية أن تكون قوية بالدرجة الكافية التي تؤهلها لإعلان الاستقلال عن التبعية للولايات المتحدة الأميركية مع الوقوف في وجه كل من الصين وروسيا وغيرهما.
ترد وزيرة الدفاع الألمانية على ذلك الطرح بقولها إن القارة الأوروبية ليس بمقدورها التحرك والعمل بمفردها بمنأى عن الولايات المتحدة، إذ قالت: «من غير القدرات النووية والتقليدية الأميركية لن يمكن لألمانيا وأوروبا حماية أنفسهما. وهذه من الحقائق الواضحة تماما». هذا وتوفر الولايات المتحدة راهنا حوالي 75 في المائة من الإمكانات العسكرية لحلف شمال الأطلسي، من استطلاع الأقمار الصناعية، والطائرات المروحية، وحتى الترسانة النووية.
وعلى هذا النحو، فإن اعتبار هاتين النقطتين المتميزتين ينبغي أن يؤدي إلى نشوء مفاهيم متعارضة للغاية بشأن العلاقات عبر الأطلسي في مجال الدفاع. ولكن، وفي واقع الأمر، ليست المسألة كذلك. ففي حين أن النقطتين تشيران إلى تأكيدات متباينة، إلا أنهما تتسقان ضمن مسار واحد.
ويحاول السيد بايدن، وهو المؤمن تماماً بأهمية التحالفات والتعددية، تهدئة أسوأ المخاوف الأوروبية الراهنة. ولكن من المتوقع لنزعة السيد ترمب أن تعاود الإطلال برأسها مرة أخرى في غضون أربع سنوات. وحتى في حالة إقصائها والتخلي عنها، سوف تبقى الولايات المتحدة في حالة تشتت بسبب الاستقطاب السياسي الشديد في الداخل، مع التنافسات الكبيرة ضد الصين في الخارج. وفي المستقبل القريب، سوف يتزايد الاهتمام الأميركي بقارة آسيا على حساب العناية بقارة أوروبا.
وتعكس ردود الفعل المتباينة لدى الرئيس الفرنسي ووزيرة الدفاع الألمانية بهذا الشأن موقف الثقافات الاستراتيجية لدى البلدان المعنية. إذ تأتي وزيرة الدفاع الألمانية من خلفية ألمانيا الغربية لما بعد الحرب، تلك الخلفية التي كانت الولايات المتحدة تضطلع فيها بدور «الوالد»، وتتمسك بحمايتها الوقائية للدولة الألمانية وللقارة الأوروبية بأسرها. وهذا هو السبب في رغبة وزيرة الدفاع الألمانية أن تعرض على الولايات المتحدة إبرام «صفقة جديدة».
وفي الأثناء ذاتها، تعد دعوة الاستقلال الأوروبي الخاصة بالسيد ماكرون هي أحدث تكرار لنفس المسألة من قبل الرؤساء الفرنسيين السابقين منذ الرئيس الراحل شارل ديغول مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، بغية الإقلال من النفوذ والهيمنة الأميركية داخل القارة الأوروبية، مع إظهار القوة الفرنسية بصورة أفضل من خلال مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل. فإن كانت النزعة الماكرونية تختلف في شيء عن النزعة الديغولية، فإنها تتبدى من خلال الإعلان عن العناية الكبيرة بالعظمة الأوروبية وليست الفرنسية فقط. بيد أنه وراء تلك الدوافع المختلفة تتلاقى الرؤيتان في نقطة ما إزاء العالم. إذ يبدو أن الرئيس الفرنسي والوزيرة الألمانية يتفقان على أن البديل طويل الأمد للقيادة الأميركية في حلف شمال الأطلسي لا بد أن يتبلور في «الجيش الأوروبي الموحد». ومع ذلك، يبدو أن القيادتين الفرنسية والألمانية تقران بأن هذه الغاية من غير المرجح بلوغها في أي وقت قريب.
وهي غاية تفتقر إلى الواقعية بصفة جزئية نظرا لأن بلدان الاتحاد الأوروبي غير مستعدة في الآونة الراهنة لكي تتخلى عن جيوشها الفردية، مما يؤدي إلى القضاء التام على سيادتها الوطنية. ففي خمسينيات القرن الماضي، كانت الحكومة الفرنسية في حقيقة الأمر هي التي وأدت فكرة تكوين القوة العسكرية الأوروبية المشتركة لنفس السبب.
وما يقترحه الرئيس الفرنسي والوزيرة الألمانية يشير إلى الغاية نفسها: لا بد لأوروبا أن تمتلك القوة العسكرية الكبيرة مع اتساق وتنسيق قواتها بصورة أفضل.