من كان يعتقد بأن النهضة اليابانية بدأت بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، فهو مخطئ. النهضة الحقيقية لليابان بدأت بعد الشعور المُرّ بإذلال الدول الغربية الكبرى، فحينما فرضت أمريكا اتفاقيات تجارية بقوة السفن والأساطيل الحربية، بدأ الشعب الياباني يشعر بمرارة الإذلال.
ففي عام ١٨٥٣، أبحر الكوماندور ماثيو بيري بخمس سفن حربية نحو العاصمة اليابانية في ذلك الوقت إيدو (وهو الاسم القديم للعاصمة طوكيو إلى العام 1868م) دون التوقف في ميناء ناغاساكي، المخصص للسفن لاستقبال السفن الأجنبية.
عندما رأى اليابانيون لأول مرة هذه السفن الحديثة آنذاك، وصفوها بالسفن التي تحترق؛ لأنها المرة الأولى التي تصل أحدث السفن البخارية إلى شواطئهم، وكانت سفنًا بخارية تنبثق منها الأدخنة السوداء، أو ما بات يعرف لاحقًا بفترة وصول "السفن السوداء".
رفض الكوماندور الأمريكي التوقف، وواصل الإبحار بعنجهية رغم رفض اليابانيين، ثم واصل عنجهيته ليطلق القذائف من السفن على ميناء العاصمة، ثم نزل يحمل رسالة فيها شروط مذلّة تجبر اليابان على توقيع اتفاقية تسمح لأمريكا بالتجارة بطريقة الإذلال والاستيلاء، وتشرّع لها الاتفاقية التنقيب عن حقول الفحم (ثروة ذلك الزمن)، فرست السفن الأمريكية كاحتلال مبدئي في موانئ اليابان.
ثم استمرّ الصَّلَف الاستعماري الاستكباري على لسان قائد الأسطول الأمريكي، بأنه سيعود بعد عام واحد فقط، فإما تكون الاتفاقية موقعة من اليابانيين، أو أنه سوف يقوم بدكّ وحرق العاصمة بأكملها.
وفِي ١٣ من فبراير ١٨٥٤، عاد الكوماندور باري بثماني سفن حربية. فما كان من اليابانيين إلا الموافقة على الطلبات الأمريكية المذلّة لهم، وتم التوقيع في ٣١ من مارس من نفس العام على الاتفاقية بين أمريكا واليابان بالقوة والإذلال لا التعاهد المنطقي الذي يحفظ حقوق كل أمة من الأمم.
بهذا، تنهي اليابان عزلتها عن العالم التي اتخذتها منذ بداية القرن السابع عشر.
ولَم ينتهِ مسلسل إذلال اليابان، ففي ١٨٥٨، أجبرت أمريكا اليابان عدم فرض الرسوم الضريبية على وارداتها، ثم تبعتها بريطانيا، وروسيا، وفرنسا. وأصبحت اليابان مستباحة للجميع.
شعر اليابانيون بالإذلال والخوف من الاستعمار الغربي الحقيقي على الأرض لا على الاقتصاد فقط، كما حصل لدول كثير في آسيا خلال تلك الفترة. فأخذوا في تعلُّم العلوم العسكرية، والقانون من الغرب. في مرحلة سميت بفترة "نهضة ميجي" أو: الحكومة المستنيرة، والتي نسبت للإمبراطور ميتسو هيتو ميجي، فكانت بدايتها في ١٨٦٨.
خلال هذه الفترة، بنى اليابانيون خطوط السكك الحديد لتربط جميع مدن البلاد ببعضها البعض، وتم تشييد المصانع لتصنيع السفن الحربية، والذخائر والأسلحة المتطورة، وفرضوا الخدمة العسكرية على الجميع لإشعال الروح الوطنية.
وبعد سنتين فقط بدأت الترسانة العسكرية اليابانية تتكون في توكيو وأوساكا في ١٨٧٠. وطبقوا النموذج الفرنسي على الجيوش العسكرية لعدة أسباب وجيهة، كان أولها الولاء للوطن وللإمبراطور.
خلال العام نفسه، أرسلت اليابان أكثر من الألف من أبنائها للدراسة في أمريكا وأوروبا، ووظفت أكثر من ثلاثة الآف غربي لتدريس العلوم، الرياضيات، التكنولوجيا واللغات الغربية. وفِي ١٨٧٧، فتح أول بنك في اليابان، "بنك اليابان" لتمويل إيرادات وصادرات الحديد والقماش.
كل هذا الجهد الاقتصادي والعسكري المحموم والمتواصل من أجل كرامة الأمة اليابانية أمام دول العام.
ونتيجة لهذه الرغبة، حاربت اليابان الصين فدخلت الصين بعد احتلال شبه الجزيرة الكورية وانتصرت في ١٨٩٥، وحاربت روسيا وانتصرت في ١٩٠٥، واستولت لاحقًا على جميع المناطق التى كانت تحتلها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وضمت أغلب آسيا إليها وأهمها كوريا في ١٩١١.
كل ذلك من أجل أن يعترف العالم بأن اليابان دولة لها سيادتها، وأنها قوة عالمية لا تفرض عليها اتفاقيات من الخارج.
ورغم هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، تظل اليابان من أقوى الدول في عالم التكنولوجيا ومن أفضل الاقتصادات العالمية اليوم، وإن أرادت صناعة الأسلحة الفتاكة أو غزو الفضاء؛ لفعلت ذلك خلال أيام معدودة.
فالسرّ الحقيقي لنهضة أي شعب تبدأ من الإحساس بالخطر؛ ولكن هذا الخطر لا بد أن يكون شعورًا بفقد شيء ثمين لا مصلحة شخصية، الشيء الثمين لليابانيين كان كرامتهم أمام العالم، وسيادة أبنائهم على أراضيهم.
ونحن كأبناء الوطن، متى نحسّ بهذا الإحساس الياباني، ألا نملك شيئًا ثمينًا يجعلنا نخاف عليه؟ ألا يوجد شي اسمه كرامة أو وطن؟ هل ماتت جميع مشاعرنا كما هي ميتة عند جميع المتحزّبين أو بعض في بلادنا؟
إذا لم نشعر بالخطر الآن، فمتى سنشعر به؟