أن الصراع الحالي في اليمن متجذرًا ومتأصّلاً إلى بدايات مطلع القرن الماضي، كما تبدو جميع أطروحات الحلول وفكّ الإشكاليات محاولة يائسة، وقد بدأت تلك الحلول اليائسة من خلال فشل جميع الأطراف المتصارعة في بناء الدولة الحديثة، فبعد مغادرة الأتراك والبريطانيين لليمن، انبثقت في المجتمع اليمني عريضة واسعة من المطالب الشعبية، سرعان ما أدّت هذه المطالب إلى خلق طبقات مجتمعية من المظالم نفسها، وهذه الطبقات ذاتها لا تعترف بها الجماعات المهيمنة والحاكمة داخل البلاد، وفي نفس الوقت يتجاهلها المجتمع الدولي في رسمه لحلول السلام سابقًا وحاليًا. ومع مرور الوقت، اتسعت بعض هذه المظالم واندمجت مع بعضها البعض مما أفرز وأظهر مظالم جديدة. ونتيجة لذلك؛ بدت سيادة اليمن ضعيفة وغير قادرة على تشكيل دولة قوية ومتماسكة، بسبب التجاهل المقصود من السياسيين لكل مظلومية لها حقّ الاستماع والأخذ برأيها وتحقيق الحدود الوطنية المطلوبة منه. لهذا وفيما يبدو لكل العقلاء والحكماء من أبناء بلادنا جميعًا، أنه لن يكون هناك سلام دائم، يحقّق الاستقرار والعيش الكريم للجميع بدون استثناء، دون الاعتراف بهذه المظلومية العادلة لكل طبقات المجتمع، إنها الخطوة الصادقة والحاسمة نحو بناء الدولة وإحلال السلام في اليمن، من أجل الوطن ومن أجل مستقبل جميع أبنائه كافة.
ولو حاولنا بصورة سريعة تفكيك منشأ الصراع الحالي في اليمن، واستعراض المظلوميات المتعاقبة فيه منذ مطلع القرن العشرين إلى اليوم؛ لرأينا اعتماد هذه المظلوميات المتعددة على تراكميّة معقدة من المظالم يطالب بها أبناء المجتمع، فالاستيلاء على الدولة من قبل مجموعة متفرّدة من الشعب، تؤتي في محصّلتها استبعادًا لمكونات أخرى من ذات المجتمع، بما يمنح هذه الطبقات المتنفّذة كشفًا مباحًا من موارد الدولة وامتيازاتها. وفيما أعلمه -على أقلّ تقدير- لم يتم القيام بأي محاولة جادة على الإطلاق من اي فئة أو كيان سياسي مستقلّ لتوحيد جميع مكونات المجتمع كما يخبرنا التاريخ، سوى ما ظهر على السطح السياسي اليمني للتصريح بالاستغلال الخارجي فقط، وتمييع الصوت السياسي اليمني المخلص والصادق؛ لشرعنة حكم ظالم سواء في شمال الوطن أو جنوبه.
ففي شمال اليمن، ترك الأتراك صنعاء نتيجة انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وأصبح الإمام يحيى حميد الدين ملكًا؛ ولكن الصراعات لم تتوقف مطلقًا سوى داخل الاسرة الحاكمة ولفترة من الزمن، حتى قام الإمام عبد الله بن أحمد الوزير بثورة ما بات يعرف بثورة الدستور في عام 1948م، والتي اغتيل فيها الامام يحيى، فأصبح ابنه أحمد ملكًا، والذي سرعان ما انتقم لموت والده بثورة مضادة، فدخل إلى حجّة ثم استولى على صنعاء. ورغم ذلك لم يستقر له الوضع حتى اندلعت ثورة 1955م الفاشلة بعد تعيينه نجله البدر وليًّا للعهد، وتمّ القضاء على هذه الثورة وسحقها بإعدام أخويّ الإمام أحمد اللذين كانا مؤيّدَيْن للثوّار: سيف الإسلام العباس وسيف الإسلام عبدالله، بالإضافة إلى إعدام قائد الجيش المقدّم أحمد الثلايا.
ومع موجة القومية العربية في الخمسينيات والستينيات والتأثير العاطفي لكاريزما جمال عبدالناصر على الضباط في الجيش اليمني في شمال الوطن، ووفاة الإمام أحمد بجروحه التي أصيب بها في محاولة الاغتيال في الحديدة في عام 1961م، انطلقت ثورة 26سبتمبر على أيدي الضباط الأحرار، وبعد ذلك سقطت البلاد في أتون حرب أهلية بين الجمهورين والملكيين دامت قرابة الست سنوات، مما أدى إلى تقسيم نسيج المجتمع المتماسك. وحتى بعد انتصار الجمهورية في الحرب، لم يتوقف تتابع الانقلابات، بل ازدادت وتيرته، ففي عام 1974م، أطيح بالرئيس الأرياني على يد إبراهيم الحمدي وتوفي في المنفى، ثم اغتيل الحمدي عام 1977م، وكذلك حصل الأمر ذاته مع خليفته الغشمي في العام التالي.
وأما في جنوب اليمن، فقد كانت المظالم السياسية أكثر تعقيدًا منها في الشمال، حيث كانت السلطنات في نزاعات مستمرة ولم تتحد في مكون سياسي حقيقي موحّد، رغم قيام حكومة الإتحاد التي لم تنضم إليها حضرموت والمهرة. وفي عام 1967م، قرر البريطانيون ترك عدن لأسباب مالية وظروف جيوسياسية أخرى، فسُلّمت السلطة إلى الجبهة القومية، وتجاهل البريطانيون تمامًا الحكومة الفيدرالية لجنوب شبه الجزيرة العربية، والمحميات الشرقية، وجبهة التحرير، حتى تمكّنت الجبهة القومية من السيطرة على الجنوب بقبضة من حديد، وسعت على إقصاء المكونات السياسية الأخرى، فحصلت المذابح المعروفة، والتصفيات السياسية والقبلية لبعض الزعماء التقليديين ورجال الأعمال ورجال الدين والعلماء، وأي مكون فكري أو سياسي يُعتقد فيه عدوًّا للحزب الواحد. لقد فشل أولئك في استيعاب جميع مكونات المجتمع العربي الأصيل المحافظ، وفرضت الأيديولوجية الماركسية الإشتراكية بإيجابياتها وسلبياتها فرضًا على المجتمع.
وبالرغم من ذلك تعاظمت حدّة المظلومية حتى داخل الحزب الواحد، فحصل نفس ما حصل في شمال اليمن، فأول رئيس بعد الاستقلال عن البريطانيين تمت الإطاحة به على عجل، فأطيح بقحطان الشعبي في انقلاب عام 1969م، ثم أعدم من بعده سالم ربيع علي في عام 1978م، حتى أطيح بانقلاب عسكري آخر بزعيم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وخليفة سالمين، علي ناصر محمد في انقلاب يناير الدامي عام 1986م، لتندلع الاشتباكات الدموية لتصفية الخصوم، والبحث عن تحقيق مظلومية كل طرف من الأطراف المتصارعة، لتتحول الحرب بصورة مأساوية لفرق اقتتال بين أبناء الوطن الواحد، حتى رأينا الاشتباكات التي قتلت الآلاف في أيام قليلة في شوارع عدن، تم الانتقام من الخصوم بناءً على بطاقة الهوية، مما أضاف طبقة جديدة من الصراعات المعقدّة.
وعند توحيد اليمن بشطريه عام 1990م، كانت هوية المجتمع بادية في التشكّل الجديد لها، والمتمحور حول المظالم السابقة في كل شطر وليس على هوية بناء الدولة، فكان ميزان المظالم هو ما أبقى الوضع هادئًا لعدّة سنوات. ومع ذلك، استمرت دواعي الصراع تحت الرماد مع سقوط الجمهورية الجديدة في الحرب الأهلية عام 1994م، ثم الحروب الستة مع الحوثيين. وأما ما فعله الربيع العربي في عام 2011م، فهو جلب كل هذه المظالم المتراكمة إلى الصدام في صراع مفتوح مع المسؤول في البلد، مما فتح بوابة النفوذ الخارجي للتدخُّل في اليمن على مصراعيه.
كان هذا التوضيح الملخّص يوضح كيف أن المظالم المتراكمة من الماضي هي المفتاح الرئيس لفهم الصراع الحالي الدائر اليوم بكل تعقيداته وأيديولوجياته، كما أنه يوفر حلًّا لسلام دائم وعادل لكافة الأطياف؛ لأن هذه المظالم غير المعترف بها من قبل بعض من يملكون القرار السياسي في اليمن وخارجه، هي البوابة الرئيسية للتدخل الدولي والإقليمي في البلاد. والأهم من ذلك، أننا نحن يجب أن نعترف بتظلُّمات بعضنا البعض، واحترام رغبات الآخرين، ومستحقاتهم التي يطالبون بها لتوفير العيش الكريم، والعدل المنشود لكافة أبناء المجتمع وإبطال وكفّ أيدي الفاسدين، سواء في شمال الوطن أو جنوبه على حدٍّ سواء، وليس محاولة استبعاد أو إزالة الهوية السياسية لبعضنا البعض، لفرض أمور غير منطقيّة تحت سياسة الأمر الواقع، مما يفتح الباب مرة أخرى لظهور مظلوميّات جديدة ومعقدّة، فتتّسع حلقات الصراع، وتزداد مساحة دائرة النار.
سيتم حل الصراع بالأخذ بالاعتبارات الآتية:أولا، من خلال الاعتراف بمظالم جميع المكونات دون تمييز أو مواربة، حتى لو كان ذلك يعني أننا سنعود إلى الوراء ولعدة عقود لتصفية الأجواء والتراكمات النفسية. ثانيًا: التركيز على السلام وإيقاف الاقتتال تحت أيّ مبرّرات وبناء أمة جديدة معًا. وبالتالي، يجب أن يكون الهدف من كل مستخلصات تفكيك التراكمات لجميع مظالم الشعب؛ بناء ثقافة المواطنة الحقّة والصادقة، حيث يتساوى كل أبناء الوطن بلا استثناء أمام القانون. ثم يجب أن ترتكز آلية الثقة وقيم العدالة في بناء مؤسسات بيروقراطية قوية خارج سيطرة المحسوبية والسيطرة الشخصية، وخاصة الجيش والشرطة والقضاء، ليغدو الوطن ملكًا للجميع، وعندئذٍ سينهض الوطن.