تواجه الإنسانية «أزمة عالمية كبرى» سيكون لها ما بعدها. أزمة غير مسبوقة شديدة الحدة في تأثيرها ومتعددة الأبعاد في شمولها وسريعة الضربات في مجالات غزوها. وهي أزمة مركبة من ثلاث أزمات معاً: الأولى صحية، والثانية اقتصادية بانكماش في الناتج العالمي، بفعل صدمة تراجع حاد في الطلب من ناحية وتوقف مفاجئ في الإنتاج وخطوط الإمداد والتوزيع لاقتصاد كان يعاني نموه أصلاً من هشاشة، والثالثة أزمة بالأسواق المالية تتضاءل إلى جانبها ما كانت عليه الأوضاع من جراء أزمة عام 2008. وكما اشتعلت الأزمة بسبب فيروس كورونا، وإعلان منظمة الصحة العالمية عن اعتباره وباءً عالمياً، فلن يتم احتواء الأزمة إلا بالحد من انتشار العدوى وتتحقق الانفراجة المأمولة بتطوير فاكسين أو لقاح للفيروس، ويطمئن الناس لعلاج ناجع يتم توفيره للكافة دون تمييز، وأن تعلن المنظمة العالمية ذاتها، في يوم نأمل أن يكون قريباً، بأن الأمر أصبح تحت السيطرة.
هناك مقولة شهيرة لفلاديمير لينين، مؤسس الحزب الشيوعي الروسي، مفادها أن «هناك عقوداً من الزمن تمر ولا يحدث فيها شيء يذكر، بينما هناك أسابيع تعادل عقوداً من الأحداث»، وقد علق أحدهم على هذه المقولة بأنها تصلح كمقدمة لمسرحية درامية أو فيلم سينمائي. ويبدو أن هذه المقولة نصيبها اليوم من الواقع الذي يشهده الناس أكبر من الخيال. وقد وصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ما يحدث بعبارات بسيطة موجهة لشعبها عن «الضرورة القصوى» التي تبرر القيود المفروضة على حقوق أصيلة للمواطنين في السفر والتنقل بحرية. وهي الضرورة القصوى ذاتها التي جعلت 115 دولة تغلق مدارسها وجامعاتها، وهي الضرورة ذاتها التي تفرض حظراً صارماً للتجول وتمنع القائمين على أي نشاط من العمل باستثناءات محددة، وهو ما لم تشهده مدن عاشت أزمنة الحروب.
وعلى صعيد آخر، أصبح الركود الاقتصادي واقعاً ينتظر فقط الإعلان الرسمي. ويتسبب الركود، مع تعطل سلاسل الإمداد والحظر الإداري، في إغلاق للمشروعات والشركات وتهديدها بالإفلاس. وتحلق البطالة لأرقام تجاوزت في بعض التقديرات ما كان في فترات الركود الشديدة وما بين الحربين العالميتين. وتشهد العمالة غير المنظمة، خاصة في قطاعات السياحة والخدمات، أسوأ أوضاع لها وتقديرات بخسارة في دخول العاملين تقترب من 3.4 تريليون دولار وفقاً لمنظمة العمل الدولية. والديون العامة والخاصة التي تراكمت عبر السنوات الماضية ينذر بعضها بعضاً باحتمالات للتعثر في السداد، هذا فضلاً عن التقلبات الحادة في الأسواق المالية وبورصات النفط والسلع الأساسية.
لقد أدرك أخيراً صناع القرار في البلدان كافة أنه لا توجد بلد واحد محصن ضد خطر الوباء، فقد وصل الوباء عند كتابة هذه السطور إلى 185 دولة. ومع زخم الأحداث واختلاف السلوك والإمكانات والاستعدادات والنظم، ترى الحكومات متباينة في تعاملها مع المستجدات، ومع الضغوط المتلاحقة قد تُتخذ إجراءات صائبة وأخرى خاطئة، وقد تتهم حكومات بالمبالغة في رد الفعل وأخرى بالتقاعس.
والأولوية الأولى بلا أدنى شك هي إعطاء قطاع الصحة العامة ما يحتاج إليه من موارد، وأن تسانده قطاعات الدولة كافة العامة والخاصة، وكذلك عموم المواطنين لتيسير مجالات تعامله مع الوباء بتدابير احترازية وإجراءات وقائية ووسائل طبية تحقق التشافي بالعلاج المتاح. وحتى يعمل القطاع الصحي بفاعلية في ظل القيود المفروضة يحتاج إلى أن نتعامل معه وكأننا في حرب، فلا نزيد من أعبائه بالإهمال والتراخي في الالتزام بتعليمات حظر التجمع والتباعد بين الأفراد حتى لا تزيد الإصابات التي تحتاج إلى رعاية صحية في المستشفيات ومقرات العلاج.
كما أن هذا القطاع الحيوي الذي لم يلق نصيباً مستحقاً من الاهتمام في أكثر البلدان، خاصة فيما يتعلق بالطب الوقائي والرعاية الصحية الأولية، يحتاج اليوم إلى أن توجه له الموارد المطلوبة لمستلزماته العاجلة. فالقطاع الطبي حول العالم يشهد استبسالاً لإنقاذ حياة المرضى من عدو شرس لا نعرف عنه، حتى الآن، كل ما يكفي للقضاء عليه. ويحتاج هذا القطاع إلى تدبير أجهزة ومعدات الكشف وأدوية ومطهرات وملابس واقية.
وسيتطلب العمل الصحي في بلدان مختلفة استعانة بخبرات طبية وتمريضية، وبخدمات مساندة لها تكلفتها. وهذا كله يستوجب مشاركة غير مسبوقة بين القطاع الحكومي والقطاع الإنتاجي، الخاص والعام والتعاوني. كما يحتاج إلى مساندة من المجتمع المدني والمنظمات الأهلية ومؤسسات العمل الطوعي، في إطار سياسة عامة معلنة وتنسيق مؤسسي.
ويستحق القطاع الصحي في المقام الأول التقدير وأسمى أوجه الامتنان لما يقوم العاملون به من عمل مضن في ظروف عالية المخاطر.
ويبرز في هذا الشأن دور التنسيق الدولي والتجارة عبر الحدود لتجسير الفجوات المالية والتقنية ونقل الخبرات والمعارف في التعامل مع الوباء أولاً بأول، ولا نستطيع تجاهل أن الدول الأفريقية تعتمد على الخارج في توفير ما لا يقل عن 50 في المائة من احتياجاتها الطبية العاجلة في المتوسط. وبالتالي، ففي الوقت الذي يتحتم فيه التباعد ومنع حركة المسافرين عبر الحدود للاعتبارات الصحية الملزمة حماية لصحة البشر، فإن المطلوب هو العكس تماماً بالنسبة لحركة التجارة في قطاعات أساسية لضمان انسياب المستلزمات الطبية والأغذية والسلع الضرورية اللازمة للمعيشة، مع الالتزام التام بالضوابط الصحية.
وليحسن الخروج والتعافي الطيب من هذه الأزمة تبرز تسعة أمور نعرضها، خاصة مع ما يتم من إعداد لقمة استثنائية لمجموعة العشرين، وما يتطلبه نجاحها من ضرورة التعاون والتنسيق عكسه ما صدر عن الاجتماع الوزاري للمجموعة:
- هذه الأزمة غير مسبوقة ولن تستفيد من إعادة تدوير ما ورد في وصفات علاج الأزمات المالية والاقتصادية السابقة. فإجراءات الإنفاق العام والسياسات الاقتصادية الأخرى يجب ألا تكون مجرد محاكاة للأزمة المالية لعام 2008، فالأزمة الراهنة ليست أزمة بنوك وأسواق مال، وإن تأثرت سلباً بتداعياتها.
- إن دعم القطاع الصحي يجب أن يكون مستمراً لا ينقطع بعد زوال الأزمة، وإلا عدنا لسابق عهد التعامل مع الأوبئة بين إهمال في الاستعداد لها وهلع في التعامل معها. وبالتالي، يجب أن يكون التمويل الجديد للقطاع ومسانداته المالية للتعامل مع الأزمة العاجلة من ناحية ومانعة من تكرارها بمراعاة ما ورد من أهداف للتنمية المستدامة بشأن الصحة وسياساتها ومؤسساتها وتمويلها.
- إن الاستثمار في التعليم والمعرفة جنباً إلى جنب مع الرعاية الصحية من أسس عصر التحول الرقمي، ويستوجب أولوية في الموازنات العامة.
- إن حزم الإنقاذ والمساندة أكثر تأثيراً عند توجيهها لعموم الناس والقطاع العائلي مباشرة من خلال الدعم النقدي. كما أن الضمان الاجتماعي وتوفير دخل مستمر ومستقر للأسر ليغطي الاحتياجات الأساسية ونظم التأمين والتكافل والتأمين الصحي الشامل ركائز مهمة لمدى إقبال الناس على العمل الخاص والحر مستقبلاً بعد معاناتهم الراهنة. وهناك فرصة ذهبية لضم العمالة غير المنتظمة في شبكات الضمان الاجتماعي من الآن.
- إن تمويل السياسات والمشروعات السابقة يحتاج إلى تحديد دقيق لأدوار الحكومة والقطاع الخاص ومؤسسات العمل الأهلي والمجتمع المدني، فلا تفتئت إحداها على الأخرى، مع أهمية تطوير النظم القانونية للمشاركة والتحفيز.
- إن توطين التنمية والاستثمار في الطاقة الإنتاجية المحلية ستكون له ضرورة ملحة في مستقبل النشاط الاقتصادي والمجتمعي، لكنه يجب أن يكون في إطار من قواعد المنافسة العادلة والابتعاد عن الإجراءات الحمائية.
- إن الأزمات تعجل بالزمن المطلوب للتحديث، ومنه ما يتعلق بالنشاط الاقتصادي، فهذه الأزمة على سبيل المثال استحضرت مبكراً الحلول والبدائل الرقمية والتواصل عبر نظم ووسائط تكنولوجيا المعلومات في التعلم وإنجاز الأعمال بما يستوجب تطوير نظم عملها وبنيتها الأساسية. - إن الأزمات تصيب من لم يتسبب فيها بالأذى وتستفيد منها قطاعات أخرى بما يجب مراعاته عند صياغة السياسات المالية والاقتصادية والإجراءات التعويضية والتنظيمية. وكما كان هناك «أغنياء حرب» فسيسعى انتهازيون ليكونوا من «أغنياء الكورونا» بما يستوجب إرساء قواعد صارمة مانعة للاحتكار والاستغلال.
- كما كان الشأن مع أزمات سابقة تُتخذ إجراءات استثنائية على أنها ستسري بصورة مؤقتة، ثم مرت السنون وانتهت وبقيت الإجراءات المؤقتة. وهو ما حذر منه المثل اليوناني القديم بأنه «ليس أكثر دواماً من الأمور المؤقتة». وعلاج ذلك أن يصدر الإجراء الاستثنائي مصحوباً بتوقيت للتخارج منه.
وفي كل الأحوال ستتضافر هذه الأزمة العالمية مع عوامل أخرى، أطلقت عليها في مقالات سابقة مُسمى «المربكات الكبرى» في تشكيل عالم مختلف. فقد تسببت أزمات وأحداث سابقة، أقل شأناً، في تغيير أوضاع العالم وتوازناته وسلوكياته بعدها. فالمجتمع والاقتصاد بصدد «واقع جديد» نتطلع لأن يكون أكثر عدلاً وكفاءة، وأن نحسن الاستعداد له.