من إيران إلى تركيا إلى السودان إلى العراق إلى فلسطين، تبدو أزمات الإسلام السياسي معروضة على الملأ.
نتائج الانتخابات التشريعية في إيران أكدت أن مخاوف المرشد علي خامنئي في محلها، في ضوء التقارير عن عدم تجاوز نسبة المشاركة عتبة ال 20 في المائة. وحتى لو اعتمدنا نسبة المشاركة الرسمية التي أعلنها وزير الداخلية الإيراني؛ أي 42 في المائة، فإنها تظل المشاركة الأدنى في تاريخ الجمهورية الإسلامية في إيران منذ 1979.
وكان المرشد استبق عمليات الاقتراع بحثّ الإيرانيين على الانتخاب على أنه واجب ديني يحفظ ماء وجه النظام ويُسقط مؤامرات الأعداء، معبّراً من حيث لم يقصد، عن فقدان الإيرانيين إيمانهم بنظام الجمهورية الإسلامية.
فبالعزوف عن المشاركة في الانتخاب، يعبّر الإيرانيون عن قناعة واسعة باستحالة التغيير من داخل مؤسسات نظام الثورة، بعد محاولة أخيرة جادة عام 2009. يومها، ورغم فوز مير حسين موسوي، فإن عملية تزوير فاضحة قادها المرشد شخصياً أبقت الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية، مما فجّر «الحركة الخضراء»، وجرى وضع موسوي وعدد من القادة الإصلاحيين قيد الإقامة الجبرية.
الانتخابات الإيرانية الأخيرة، معطوفة على تقارير دولية موثوقة عن حجم القمع الدموي داخل إيران للانتفاضة المناهضة للنظام، والانهيار الاقتصادي المريع، وتهاوي صورة النظام بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني والرد الإيراني الواهي عليه، وفضيحة إسقاط الطائرة الأوكرانية بما تعكسه من ارتباك وتوتر... كلها علامات على فشل نموذج نظام الثورة وتعفّنه. وأهمية ذلك أنه النموذج الأول لنظام الإسلام السياسي المعاصر بشقه الشيعي.
بالتوازي كان الرئيس التركي الأسبق بين عامي 2007 و2014 وأحد كبار كوادر حزب «العدالة والتنمية»؛ أي «الإخوان المسلمين» في تركيا، يعلن جهاراً في مقابلة مع صحيفة «أحوال» عن أزمة أحزاب الإسلام السياسي عامة في علاقتها الإشكالية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لا سيما في ضوء ما انتهت إليه التجربة التركية، مشيراً إلى «كثير من السجالات المزدهرة الآن حول انهيار الإسلام السياسي»!
تكتمل بهذا دائرة الأزمة عند الإسلاميين السياسيين؛ شيعة وسنّة، والمتحدرين من أصل عقائدي واحد هو فكر سيد قطب.
ولا يسع الناظر إلى العراق والثورة المندلعة فيه منذ أشهر، إلا ملاحظة أنها رد جماهيري على الانهيار المريع لأحزاب الإسلام السياسي، وفشلها في إدارة الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في بلد ثري كالعراق. ولعل أكثر ما يمثل الطلاق الحاصل بين الشارع العراقي ونخبة الإسلام السياسي، ما انتهت إليه تجربة السيد مقتدى الصدر؛ بما أنها واحدة من التجارب الأكثر شعبية لأشهر خلت، والأقدر على نسج علاقات أوسع من الدائرة الشيعية، والأكثر ليونة في علاقتها بالشارع وقواه المنتفضة لا سيما التيار المدني، الذي وجد في التقاطع مع الصدر ما يمنحه حصانة ضرورية في مواجهة تغوّل الطبقة السياسية الممسكة بأجهزة الأمن والجيش والميليشيات.
بيد أن عودة الصدر إلى التقارب مع حلفاء إيران في العراق، وتورط رجاله، تحت عنوان وحدات «القبعات الزرق»، في عمليات قتل المتظاهرين، وانحيازه للمكلف تشكيل الحكومة محمد توفيق علاوي، قطع آخر الخيوط بين التيار المدني وأحزاب الإسلام السياسي في العراق. كما أن نجاح الثورة في الحفاظ على زخمها بعد سقوط أكثر من 600 قتيل وآلاف الجرحى، أقنع التيار المدني بأن الزمن العراقي تحوّل، وأن المدنيين الديمقراطيين هم القوة الأقوى في الشارع اليوم، مما سرّع في الإجهاز على ظروف نشأة التقاطع بين التيار المدني وتيار الصدر.
أما في السودان؛ فقد شكّل سقوط نظام عمر حسن البشير ضربة مدوّية لـ«إخوان السودان»، بعد حكم استمر منذ انقلاب عام 1989 بقيادة الداعية الإخواني الراحل حسن الترابي، الذي تحوّل في مراحل لاحقة إلى أبرز خصوم البشير.
ومن علامات الإرباك الهائل الذي يواجهه «إخوان السودان» إعلان الدكتور عوض الله حسن سيد أحمد، المراقب العام لـ«الإخوان المسلمين» في السودان، بعد الانقلاب، تخليه التام وتخلي جماعة «الإخوان» في السودان عن نظام الرئيس السابق عمر البشير وجميع المعاونين له من رموز النظام المخلوع. وهو موقف يأتي في سياق تموضع سياسي تبغي الجماعة من ورائه حماية دورها السياسي في مستقبل السودان بعد 3 عقود انتهت إلى واقع الفشل الذي انتفض السودانيون في وجهه، كما شهدت انهيارات تنظيمية حادة في صفوف «الإخوان» نتيجة الصراعات الداخلية التي استنزفت سمعة ومكانة الشخصيات القيادية للتنظيم.
كما يهدف التموضع هذا إلى حماية الثروة الإخوانية المادية من عقارات وحسابات مصرفية وأموال نقدية، تفادياً لما حدث لثروات «الإخوان» في مصر.
وجاء كشف النيابة العامة السودانية مؤخراً عن «خلية إرهابية» تابعة لتنظيم «الإخوان المسلمين» في مصر وكانت تخطط لاعتداءات في البلاد، ليفاقم من المخاوف الشعبية السودانية الطرية من عموم تجربة الإسلام السياسي في السودان، ويمعن في استنزاف قدرة التنظيم على النهوض.
وتصل تجربة الإسلام السياسي إلى ذرى كاريكاتورية مع الأنباء عن وساطة إسرائيلية مع قطر كشف عنها وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان، قوامها سعي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لتأمين دفعة جديدة من الأموال لحكومة غزة. فبعد 13 سنة من انقلاب «حماس» في غزة وبعد 3 حروب مدمرة في أعوام 2009 و2012 و2014، وعشرات آلاف الصواريخ ومئات الأنفاق ومشروع «مسيرات العودة»، يبدو الفشل هو نتاج تجربة «حماس» الأوضح، مما أدى إلى عزلتها حتى داخل القطاع، وانفجار مظاهرات «بدنا نعيش» في ربيع 2019 في وجه نتائج سياساتها الإسرائيلية والفلسطينية الداخلية. بعد كل ذلك؛ تلجأ «حماس» إلى إسرائيل لترتيب الحد الأدنى مما يبقي غزة على قيد الحياة.
هل من فشل أكبر من هذا الفشل؟
الحكم لك عزيزي القارئ.