شاهد العالم، أمس، منظر الخروج الجماعي لشتى البعثات الدبلوماسية والمقيمين في مطار العاصمة الأفغانية كابل وهم يهرعون نحو سلالم الطائرات، في مشهد قلما يشاهده المرء في المطارات الصارمة في إجراءات المغادرة. كان الناس يتشبثون بالسلالم والطائرات أملاً في الهروب من حركة طالبان الأفغانية التي سيطرت على مقاليد الحكم في البلاد بعد مغادرة آخر طلائع الجيش الأميركي. ونجحت دول في إجلاء سريع لسفرائها، منها فرنسا التي أمنت خروجاً آمناً لبعثتها.
من الطبيعي أن تهرب الناس من الاستبداد، حتى إن كان مجرد «أوهام» أو «توقعات»، فمن لديه الاستعداد لانتظار لحظة العيش تحت نير حكم استبدادي مرة أخرى؟! والاستبداد ليس مقصوراً على عالم السياسة. ففي كل مناحي الحياة هناك استبدادي صغير يقبع في أركانها. ولدينا في علم القيادة مفهوم شهير، وهو «القيادة الاستبدادية» أو «السلطوية» (autocratic) التي ينفرد فيها القائد بالقرار، وقلما يستشير من حوله.
مشكلة الاستبدادية في العمل أنها تأتي على شكل حالات عدة، منها لحسم الأمور أو ضبطها، خصوصاً عند حدوث كوارث أو عند إدارة الأزمات مع ضيق الوقت. وهناك «أوتوقراطية» أو استبدادية دائمة، وهي مشكلة لأنها إذا ما كانت متغلغلة في وجدان القيادي، فإنها تساعده على إشاعة هذه الثقافة الإقصائية. وعلى الأرجح، فإنه سيخرج من تحت عباءتها صفٌ ثانٍ من الشباب يحملون الأسلوب نفسه... وهلم جراً. وكلما كبرت المؤسسة زادت الورطة لأنه سوف تتفشى فيها فكرة «احسم ولا تلتفت»، وهي تتنافى مع فكرة الإدارة وتراتبيتها، فقد وُضِعَت الهياكل التنظيمية وتعددت التخصصات والخبرات والرؤى لكي يستفيد المسؤول منها في قراراته.
وتنبثق كلمة «أوتو» من الجذر اللاتيني «النفس»، و«قراطي» من النظام (rule)؛ أي أن الأوتوقراطي يسير وفق قواعده الخاصة، وينصب اهتمامه على نفسه، وقد حذر عبد الرحمن الكواكبي من العواقب الوخيمة لذلك في كتابه الجميل «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».
وإذا أصر القيادي على ألا يكترث بآراء من حوله، فسيكون محظوظاً إذا هربوا منه هروباً جماعياً، غير أن العلة تكمن في أولئك الذي سينتقمون منه بدهاء عبر الثناء الدائم على آرائه «غير الحكيمة» حتى يقع في ورطة كبيرة. فتجاهل القائد المتسلط لآراء من حوله يدفعه دفعاً نحو الهاوية، وهذه هي النتيجة الطبيعية لمن يضرب بآراء المخلصين عرض الحائط.