«دخلنا معاً وتأقلمنا مع الظروف معاً وسنخرج عندما يكون الوقت مناسباً».
كان هذا رد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في مقابلة تلفزيونية يوم الأحد الماضي، عندما سُئل عن مستقبل وجود القوات الأميركية وقوات حلف الشمال الأطلسي «ناتو» في أفغانستان، وإذا ما كانت بلاده تنوي سحب قواتها بمفردها من أفغانستان. وكان ملف أفغانستان على رأس جدول اجتماع وزراء الخارجية التابعين للحلف الذي انعقد الأسبوع الماضي في بروكسل.
هذا الملف، كغيره من ملفات السياسة الخارجية الأميركية، يشهد تغييرات مهمة مع انتقال الإدارة الأميركية من الجمهوريين إلى الديمقراطيين مع فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية. ففي أثناء إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، كانت القوات الأميركية تستعد لمغادرة أفغانستان بعد بدء المفاوضات مع «طالبان» من دون إشراك شركاء واشنطن في «ناتو» في أيٍّ من القرارات. بل كانت المفاوضات مباشرة بين مبعوث ترمب زلماي خليل زاد، وعناصر «طالبان» المسؤولة عن مقتل جنود «ناتو»، بالإضافة إلى الأبرياء من الأفغان. وكان ترمب قد أعلن أنه ينوي سحب القوات الأميركية من أفغانستان في موعد 1 مايو (أيار) المقبل. إلا أن خلفه بايدن أعلن الأسبوع الماضي أن مراجعة الملف الأفغاني ما زال قائماً، وأنه من غير المتوقع سحب القوات بحلول 1 مايو. لكنه أضاف أنه يتوقع سحبها قبل العام المقبل.
التقلبات التي تشهدها علاقة الولايات المتحدة بالدول الـ29 الأخرى الأعضاء في الحلف تأتي ضمن الجدال القائم حول مساره المستقبلي. لقد مرَّ على تحالف «ناتو» منذ تأسيسه عام 1949 الكثير من التغييرات، ولكن يبقى ميثاق الحلف أساساً لعمله. ويُذكر أن أفغانستان شهدت الحرب الأولى والوحيدة التي خاضتها قوات «ناتو» بناءً على البند الخامس من ميثاق «ناتو»، الذي يفيد بأن الاعتداء على أي دولة من دول «ناتو» هو اعتداء على الحلف كله. لذلك بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 طالبت واشنطن باستحضار هذا البند وخوض الحرب ضد «طالبان».
ويصادف هذا العام الذكرى الـ20 منذ أن بدأت قوات «ناتو» حربها في أفغانستان والتي لم تنتهِ، بعد ومن غير المعروف كيف ستنتهي. إلا أن دول «ناتو» طالبت واشنطن بوضع خريطة طريق تشملهم عند سحب قواتها.
التنسيق بين القوات الأميركية وحلف شمال الأطلسي لا تقتصر فقط على أفغانستان. فالأمر نفسه في العراق الذي تنسّق فيه القوات الدولية عن كثب مع واشنطن. ووافق الحلف أخيراً على رفع تعداد قواته في العراق من 500 إلى 4 آلاف جندي، مما يساعد واشنطن على إبقاء تعداد قواتها بحدود 2500 جندي.
وبينما دخلت دول «ناتو» أفغانستان بعزيمة قوية وباتحاد ملحوظ، كان دخولها إلى العراق بتردد كبير بعد الشرخ الذي حدث في أوروبا حول حرب عام 2003. كانت فرنسا وألمانيا من أكثر المعارضين لحرب عام 2003 للإطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، بينما وقفت بريطانيا وإسبانيا وبولونيا وعدد من الدول الأوروبية في صف الولايات المتحدة. وبعد جهود بريطانية وأميركية حثيثة، وافقت دول «ناتو» على الدخول إلى العراق تحت مسمى التدريب، وبين عامي 2004 و2011 تم تدريب 15 ألف عنصر من قوات الأمن العراقية من خلال برنامج «ناتو». في عام 2012 تم نقل العلاقة من التدريب إلى «برنامج شراكة وتعاون» أيضاً تحت حكم الديمقراطيين في أثناء إدارة باراك أوباما. وفي أبريل (نيسان) 2016 بدأ «ناتو» تدريب العراقيين في الأردن في أثناء الحرب على «داعش»، قبل أن ينضم رسمياً إلى الحملة العسكرية لهزيمة التنظيم الإرهابي.
وفي فبراير (شباط) الماضي، وافق وزراء دفاع «ناتو» على توسيع بعثة الحلف في البلاد، بناءً على طلب الحكومة العراقية. أتى هذا الطلب بعد الضغوط الأميركية لتقليص وجودها في العراق.
فوز بايدن بالرئاسة أعاد الحيوية إلى «ناتو» بعد أن كان ترمب قد استبعد قيادة الحلف من المقربين لدى صناع القرار في واشنطن. ومع إصرار بلينكن وفريق بايدن على إعادة العمل من خلال المنظمات الدولية والتحالفات التقليدية، عاد حلف الشمال الأطلسي إلى الواجهة. وبما أن العلاقات بين واشنطن وموسكو متشنجة، عاد الدور التقليدي لـ«ناتو» في التصدي لموسكو إلى الصادرة. إلا أن حلف الشمال الأطلسي يواجه ثلاثة تحديات رئيسية: أولاً، عزوف معظم الدول الأعضاء في الحلف عن الإنفاق العسكري الكافي الذي كان مطلوباً أن يكون بنسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي لكل دولة، الأمر الذي يزيد من العبء على الولايات المتحدة، التي تريد بدورها أن تخفف من التزاماتها الخارجية. ومع الأزمة المالية الناتجة عن جائحة «كوفيد - 19» فإنه من غير المرجح أنه سيتم تخصيص الأموال الإضافية.
أما التحدي الثاني، فهو تطوير استراتيجية ناجحة للخروج من أفغانستان من دون اعتبار المغادرة فشلاً. فبعد عقدين من القتال، ما زال مقاتلو «طالبان» يسيطرون على أكثر من نصف مساحة البلاد. الخروج باتفاق عسكري وسياسي ناجح سيكون ضرورياً لصورة «ناتو» أمام شعوب الدول الأعضاء والعالم. أما التحدي الثالث فهو تطوير قدرة «ناتو» على مواجهة التحديات الأمنية الجديدة، خصوصاً فيما يتعلق بالأمن السيبراني والبنى التحتية المرتبطة بالعالم الرقمي. أي هجوم يستهدف البنى التحتية الإلكترونية لأي دولة من دول الحلف، قد يؤدي إلى انقطاع الكهرباء والماء وجميع الخدمات الأساسية في البلاد. سيتعيَّن على «ناتو» بلورة استراتيجية حديثة لمواجهة مثل هذه التحديات، في وقت تعمل واشنطن على الحد من وجود التكنولوجيا الصينية في عدد من دول الحلف، على رأسها بريطانيا التي اتفقت مع الصين على تزويدها بشبكات اتصال الجيل الخامس على الرغم من احتجاجات واشنطن. ستكون كل هذه القضايا أمام الدول الأعضاء في «ناتو» وهي تحاول أن تضع مبادرة «ناتو 2030» التي من شأنها أن تحصِّن الحلف للسنوات المقبلة، وحسب الأمين العام لـ«ناتو» ينس ستولتنبرغ، «علينا أن نكون طموحين في بناء تحالف للمستقبل». هل يمكن للحلف الذي أنشئ ليواجه الاتحاد السوفياتي الذي اندثر، أن يبقى حيوياً؟ هذا هو السؤال الذي على الحلف أن يجيب عنه بحزم.