الشبكة العربية للأنباء

المراجعة السياسية المتحركة

2021/03/13 الساعة 11:31 صباحاً

في عالم اليوم هناك أكثر من مائة وتسعين دولة، وكل دولة لها نظامها السياسي الخاص بها، وإن تشابهت تسميات الدول أو اختلفت.


ولكنّ هناك قاسماً واحداً يكاد يجمعها وهو إدارة أمور الناس والحياة بما فيها من ضرورات يومية، مع رسم سياسات خارجية تحدد علاقاتها بمختلف الدول. العامل الأساسي الذي يعطي صفة الرشاد أو عدمه لكل سياسة داخلية أو خارجية للدولة، هو المراجعة المتحركة لهذه السياسات، لأن كل ما في الحياة متحرك من دون توقف البشر ووعيهم واحتياجاتهم وتطور مطالبهم، وكذلك الوضع الدولي بكل ما فيه من سخونة وليونة وتغير وتدافع. من يسقط في حفر الآيديولوجيا ووهم الكبر والتفوق واستهداف الآخرين باستخدام القوة أو التهديد بها، يكون هو أول ضحاياها ويسقط في هوة الجمود التي لا قاع لها. الاتحاد السوفياتي الإمبراطورية التي امتدت في آسيا وأوروبا وهيمنت على دول تدور في فلكها، وامتلكت أقوى الأسلحة بما فيها الذرية والصواريخ العابرة للقارات، تفككت الإمبراطورية العملاقة بسبب تجمدها في صندوق الآيديولوجيا، وإن كان أوسع من سطح سيبيريا. تجاهل قادتها الذين ولدوا وتأسسوا في عصر التهمه الزمن الغابر، حقيقة الحياة التي لا تتوقف عن الحركة التي تتنفس بالتطور والتغير. عندما حاول غورباتشوف الذي يحمل أنفاس الشباب أن يسخن ثلج سيبيريا الذي تجمد في الرؤوس، انكسر الثلج وتهاوت العقول منتهية الصلاحية، وغاص جبل ثلج الإمبراطورية في قاع بحر العصر.


الصين بلاد الحكمة والمجتمع النملي الذي تنتظم مساراته في أرتال منضبطة، سعياً لجمع ضرورات الحياة، أدركت التوقيت الذي يفرض المراجعة الواسعة والعميقة لما كان موروثاً آيديولوجياً رسخه مؤسسها كدولة شيوعية ماوتسي تونغ بقوة طوطمية أهلكت البلاد والعباد. من ذات الرحم الحزبي ولد الرجل الذي هجم على الموروث بمطرقة المراجعة الجريئة، ونقل البلاد إلى نظام رأسمالي أبدعته الصين فأبدعها، فصارت أكبر مصنع ومختبر وسوق للعالم. عبّأ الزعيم دينغ هسياو بينغ الكتلة البشرية الصينية الأكبر في العالم بقوة العلم والتدريب، وسرت بلاده في الدنيا بقوتها الناعمة، من دون أن تحرك جيشَها العرموم لاقتحام أصقاع الأرض بقوة السلاح، لكنها فعلت ذلك بقوة العقل والعمل التي أيقظتها المراجعة الجريئة والحكيمة للموروث المتآكل، وتعبئة قدرات الوطن بمنهج جديد حقق قطيعة ثورية مع ماضٍ انتهت صلاحيته. الحياة تقول مَن لا يتحرك فهو ميت، ومراجعة ما هو كائن شرطٌ أساسي لتأكيد حقيقة الحياة.


الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر رفع شعار الحرية والاشتراكية والوحدة، وعبَّأ الرأي العام العربي لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وخاض تجربة عملية غير مسبوقة في التاريخ العربي الحديث، وأقام وحدة مع سوريا، بعد سنوات قليلة هوت الوحدة، وعادت سوريا جمهورية قائمة بذاتها بعد انفصالها عن الجمهورية العربية المتحدة. لم يعد بعدها جمال عبد الناصر إلى الهتاف بالكلمة الثالثة من شعاره وهي الوحدة، وإن أعادها فقد أعطاها مضموناً جديداً وهو التضامن العربي، وليس الاندماج بين كيانات عربية مستقلة قائمة. خاض جمال عبد الناصر حروباً من أجل تحرير فلسطين رافضاً الكيان العبري في قلب الوطن العربي، لكنه في آخر حروبه فقد جزءاً من أرض بلاده مصر، وصار في قبضة الكيان العبري، الذي أراد تحرير فلسطين منه. لقد خاض جمال عبد الناصر معركته الأخيرة مع ذاته، وأعاد قراءة ما عاشه وراجع كل ما كانه. بعد حرب يونيو (حزيران) 1967، أدرك أن الواقع غير ذلك الذي كان يراه، وأن معركته لتحرير أرضه المحتلة سيناء تحتاج إلى فكر جديد، وقوة عسكرية جديدة ولعقل وقيادة جديدين أيضاً. أيقن أن التفوق الجوي الإسرائيلي هو مقتل مصر العسكري، فقرر بناء حائط الصواريخ على ضفة قناة السويس لمواجهة طوفان الطائرات الإسرائيلية التي استباحت أجواء مصر، وضربت مدرسة بحر البقر. ذهب إلى موسكو من أجل الحصول على الصواريخ المضادة للطائرات، وهناك أعلن قبوله لمبادرة روجرز، لوقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل، المبنية على قرار الأمم المتحدة رقم 242، الذي ينص على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الأخير، كما نص القرار على إنهاء حالة الحرب، وعلى احترام سيادة دول المنطقة وحرية الملاحة في الممرات الدولية، وكذلك الاعتراف بوحدة وسيادة أراضي كل دولة، وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، ولم يتحدث القرار عن فلسطين والشعب الفلسطيني إلا كلاجئين. قبل عبد الناصر المبادرة وهو في موسكو ورفضها نائبه السادات وهو في القاهرة، لكن بعد عودة عبد الناصر تراجع أنور السادات، وانضم إلى موقف رئيسه. لم يعد تحرير فلسطين من النهر إلى البحر قضية مصر وعبد الناصر. في السنة الأخيرة من حياته، كان عبد الناصر يقضي أغلب لياليه هو وعائلته في منزل نائبه السادات، ومن دون شك كان موضوع تحرير سيناء لا يغيب، وأن السادات بعد توليه الرئاسة اختط استراتيجية عسكرية وسياسية لذلك، من دون أن تكون مراجعة عبد الناصر معه غائبة عنها.

حالتان من الجمود المزمن في منطقتنا غاب فيهما تماماً أي شكل من أشكال المراجعة؛ وهما الحالتان العراقية والإيرانية. منذ وصوله إلى الحكم إلى يوم رحيله، اعتنق الرئيس صدام حسين سياسة الدم داخلياً وخارجياً. قتل الآلاف من رفاقه في الحزب بمن فيهم أعلى القيادات، وكل من همس بكلمة ضد حكمه، ونصب أبناء عشيرته قادة للجيش والأمن، ورقاهم إلى أعلى الرتب، ومنهم مَن لم يكن يحمل أي مؤهل علمي. هدد بحرق نصف إسرائيل بالسلاح الكيماوي، ولم يستطع حماية مفاعلاته النووية من الغارات الجوية الإسرائيلية التي دمرتها، من دون أن تصاب أي طائرة. وفي قفزة عسكرية غير محسوبة دفع جيشه إلى الكويت، وأُخرج منها عنوة بعد أن فقد أكثر من مائة ألف ضابط وجندي عراقي. وقبل هذا كانت حرب السنوات الثماني التي أفقرت العراق والتهمت قرابة مليون من شبابه، ضرب جزءاً من شعبه الذي ثار عليه بالسلاح الكيماوي. رغم كل تلك الكوارث التي كدسها فوق رأس شعبه وأرض بلاده، لم يفكر في مراجعة سياساته بمسؤولية وجرأة يستحقها وطنه وشعبه اللذان غاصا في مستنقع الكوارث الملتهب.


الحالة الثانية في إيران التي أنهت حربها الطويلة مع العراق بعدما قال الخميني إنه تجرع كأس السم بقبول وقف المجزرة الرهيبة، لتبدأ إيران حرباً أوسع وأشد تكلفة.
بأذرع طائفية مسلحة تخوض إيران حروباً بعيدة وقريبة من حدودها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، في حين يعاني شعبها من الفقر وجور السلطة. إيران التي لها مؤهلات النهوض، وبأن تكون القوة الناعمة في المنطقة التي تصدر إنتاجها الزراعي والصناعي وسجادها وبقولها ومكسراتها إلى كل الدنيا، غابَ عنها عقلُ المراجعة السياسية الجريئة، وكان الثمن العقوبات الدولية التي أنهكت مفاصل الوطن، وكسرت ركائز الحياة تحت سيطرة الجهل المقدس. في هذا القرن الذي صار فيه الإنسان هو المعيار والمقياس أصبحت المراجعة خياراً لا مناص عنه، بل هي الواجب اليومي لمن يتولى شؤون الأوطان وإلا مستنقع النار هو كهف الوهن والتخلف وباب النهاية.