في اللحظات الانتقالية لسياسات الأمم تكون هناك دائماً حاجة إلى «المراجعة» أو «إعادة النظر» Review أو بكلمة أخرى «وقفة» Pause، ساعتها لا تحتاج الإدارة السياسية أن تبقي أوضاعاً على ما كانت عليه. الأمر هكذا شائع في الولايات المتحدة عند الانتقال من إدارة أميركية إلى أخرى؛ وفي العادة تكون الإدارة الجديدة مستعدة للحظة الانتقال، وتمهد لها بإشارات وعلامات مفهومة، سواء مع الأعداء أو الحلفاء. وهذه المرة لم يكن الانتقال من إدارة ترمب إلى إدارة بايدن كما هو معتاد، لأسباب باتت معروفة واستثنائية، فلا تأخر إعلان النتيجة كما تأخر، ولا تم التصديق عليها بطريقة سلسلة، وإنما وسط أحداث عنيفة، ولا كانت الإدارة الذاهبة على استعداد لوداع الإدارة القادمة. وبشكل ما، بقدر ما كانت إدارة ترمب انقلاباً على جميع الإدارات الأميركية السابقة، فإن إدارة بايدن تعد انقلاباً على إدارة ترمب، سواء كان ذلك في السياسات الداخلية أو الخارجية. والانقلاب جرى في الحالتين من خلال حزمة كبيرة من القرارات الرئاسية التنفيذية في السياسات الداخلية والخارجية؛ أما في العلاقات بين الولايات المتحدة ودول العالم، فإنَّ بايدن وجماعته لجأوا إلى تعبير مستعار من الكومبيوتر، وهو الذي عندما يُخْتَرق أو يعجز عن الحركة، فإن المستخدم يلجأ إلى عملية لإعادة التشغيل أو Resetting، وفحواها العودة إلى برامج التشغيل الرئيسية لكي تعود للعمل مرة أخرى بعد أن تتخلص مما عطلها أو جعلها تعمل بلا كفاءة أو تسير في مسارات غير صحيحة.
في هذه الحالة تصبح سياسات ترمب انحرافاً عما كان اتجاهاً صحيحاً، وتكون العودة مرة أخرى إلى الأصول نوعاً من التصحيح. التعبير هكذا صار مستخدماً بكثافة في إدارة بايدن في علاقات الولايات المتحدة مع دول العالم المختلفة، والتي تحتاج لتصحيح المسار، وفي مقدمتها العلاقة مع إيران ودول الشرق الأوسط الأخرى.
ولا شيء يشرح السياسة الأميركية تجاه إيران قدر العملية المشار إليها، حيث تريد واشنطن أن تعود مرة أخرى إلى الاتفاق النووي، ولكن الإدارة السابقة كانت قد خلقت أوضاعاً لا يمكن تجاهلها. وفي 22 فبراير (شباط) المنصرم، نشر سانام فاكيل مقالاً في مجلة «الشؤون الخارجية» الأميركية بعنوان «يتطلب الاستقرار في الشرق الأوسط أكثر من مجرد صفقة مع إيران» جاء فيه أن إدارة بايدن ترث مجموعة مألوفة من القضايا المتعلقة بإيران حيث تمتلك الدولة برنامجاً نووياً متقدماً وترسانة صواريخ باليستية وسياسة إقليمية لدعم المجموعات الشيعية في المنطقة، على رأسهم الحوثيون في اليمن الحوثيين.
منذ مايو (أيار) 2018، عندما انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الاتفاق النووي الإيراني وبدأ في زيادة ضغط العقوبات على طهران، سارعت الحكومة الإيرانية في تطويرها النووي، وتقليل وقت الاختراق أو القفز لإنتاج السلاح من سنة واحدة إلى عدد من الأشهر. أوضح بايدن أنه يعتزم عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي والامتثال لقيودها طالما أنَّ إيران تفعل الشيء نفسه. وقد أشارت إيران إلى أنها أيضاً مستعدة للعودة إلى التزاماتها، طالما أن الولايات المتحدة ترفع العقوبات. لكن العملية لن تكون بهذه البساطة التي يوحي بها هذا التبادل. ولكي يكون الاتفاق النووي مستداماً، يجب عزله عن الانتكاسات السياسية المستقبلية. ويتطلب ضمان هذه الاستمرارية من الموقعين معالجة نقاط الضعف في الصفقة، والتي تشمل طول الجداول الزمنية وشروط عقوباتsnap back، بالإضافة إلى المشكلات خارج النطاق الحالي للاتفاقية، مثل برنامج الصواريخ الإيراني والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار. وبدون خطة إقليمية، ستظل أجندة إدارة بايدن المتعلقة بإيران والشرق الأوسط، الأوسع عرضة لمعارضة خصومه الحزبيين في واشنطن وشركاء الولايات المتحدة في المنطقة.
قبل أسبوع، وبعد 36 يوماً من دخول بايدن إلى البيت الأبيض، قامت الطائرات الأميركية بقصف وتدمير مواقع إيرانية في سوريا، وكان الغرض المباشر منها حماية حلفاء واشنطن من الأكراد، وإظهار الغضب من السياسة الإيرانية في سوريا، وتطبيق عملية إعادة الاستخدام أو Resetting للعلاقات الأميركية الإيرانية بحيث يكون فيها التوازن كافياً بين العصا والجزرة. كانت الولايات المتحدة قد بدأت بالجزرة عندما أعلنت عن رغبتها في العودة إلى الاتفاق النووي مرة أخرى، وحثت حلفاءها في أوروبا على طمأنة طهران من حيث جدية الولايات المتحدة؛ وعيّنت روبرت مالي مندوباً رئاسياً للتعامل مع إيران. رد الفعل الإيراني على الجزرة الأميركية كان فيه كثير من العنف، بعضه لفظي، وبعضه الآخر موقف يرى أن الولايات المتحدة، وقد انسحبت من قبل من الاتفاق، عليها أن تعود إليه من دون قيد ولا شرط، ومن دون عودة إلى ما كان عليه الحال قبل الانسحاب. وبعض ثالث كان التوسع في الهجمات الإيرانية الإقليمية، فضربت قاعدة جوية عراقية، توجد فيها تسهيلات أميركية بالصواريخ، ما أدى إلى تدمير منشآت وقتل مقاول أميركي؛ ودفعت الحوثيين للهجوم على مأرب في اليمن التي كانت الولايات المتحدة تضع فيها سياسة جديدة تعيد تشغيل البحث عن السلام على الطريقة الأميركية هذه المرة. ولم تكتفِ إيران بذلك، وإنما قامت بتوجيه هجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة من قواعد لدى الحوثيين في اليمن إلى المملكة العربية السعودية وفي مناطق مدنية واضحة مثل مطار أبها.
ما لم تدركه طهران هو أنَّ واشنطن كانت في نفس الوقت تحاول أن تعيد تشغيل برامجها مع حلفائها في المنطقة أيضاً، وبقدر ما كانت تريد العودة إلى الاتفاق النووي، فإنها كانت تريد الإبقاء على تحالفاتها في المنطقة وثيقة وقوية وفيها قدر أكبر من الثقة. ولم يكن أي من ذلك محترماً في ظل السلوك العدواني الإيراني، فكانت الضربة العسكرية المشار إليها لإعطاء الرسالة، ليس فقط إلى إيران، وإنما للحلفاء أيضاً. العملية السياسية الأميركية كلها لم تنتهِ بعد، فإعادة التشغيل بدأت مع مصر من خلال الاتصال الذي جرى بين توني بلينكن وزير الخارجية الأميركي وسامح شكري وزير الخارجية المصري، حيث جرى التأكيد على استمرار العلاقات «الاستراتيجية» بين الطرفين، مع إشارة لموضوع حقوق الإنسان. إعادة تشغيل العلاقات السعودية الأميركية ربما تكون قلب السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وهذه جرى فيها الاتصال بين بايدن والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز للتأكيد على استمرار واشنطن على عهدها في الدفاع عن المملكة. إسرائيل بدأت فيها عملية التشغيل بسهولة من خلال إعادة التعامل مع الفلسطينيين، وتشجيع عمليات السلام والتطبيع الجارية في المنطقة؛ ولكنها كانت أكثر صعوبة مع نتنياهو الذي يريد إبقاء ورقة ضرب القدرات النووية الإيرانية في يده، وهو أمر ربما لا يغيب كثيراً عما تريده الولايات المتحدة التي تريد أن تجعل الموقف الإسرائيلي جزءاً من عصا عملية إعادة التشغيل مع إيران. في كل الأحوال، فإن القصة لا تزال في بدايتها، والمحلفون في العلاقات الدولية لم يطلقوا حكمهم على الاستراتيجية الأميركية بعد!