عندما يصل الرئيس المنتخب حديثاً إلى أعتاب البيت الأبيض، سوف يتحتم عليه مواجهة التحديين الأكثر ضرورة وأهمية في البلاد: جائحة فيروس كورونا المستجد، والأضرار الاقتصادية المترتبة عليها. بيد أنه سوف يخوض غمار معركة بالغة القسوة والمشقة من أجل تمكين هذا النوع من الأجندات السياسية الجريئة للغاية والتي يتطلع إليها الكثير من أنصاره ومؤيديه.
وفي ظل تدابير الإغاثة والمحفزات المالية ذات الصبغة التقليدية ومحدودة التأثير إثر ممانعة حزب المعارضة، قد يظل السيد جوزيف بايدن ممتلكاً القدرة على تمرير تلك السياسات الهادفة إلى إنعاش قطاع الخدمات الأميركي الذي لحقت به الكثير من الأضرار الفادحة في الآونة الأخيرة.
لقد شهد اقتصاد الولايات المتحدة وثبة سريعة منذ شهر أبريل (نيسان) من العام الحالي، وإنما على نحو جزئي غير شامل. وسجل معدل العمالة تعافياً ملحوظاً على منتصف الطريق صوب ما كانت عليه الأوضاع قبل اندلاع أزمة وباء كورونا المستجد الأخيرة. وذلك مع معاناة واضحة يكابدها الموظفون من أصحاب الأجور المنخفضة، والذين يميلون إلى العمل في شركات الخدمات المحلية الأكثر تضرراً جراء أزمة الوباء.
يعاني اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية من علتين أساسيتين متزامنتين. العلة الأولى تتمثل في الخوف المستمر من وباء كورونا المستجد، الذي بلغ لتوه منتصف الموجة الثالثة المدمرة. ذلك الخوف المريع – بصرف النظر عن قرارات الإغلاق العام الصارمة – هو الذي أجبر المواطنين الأميركيين على لزوم منازلهم وعدم مغادرتها في المقام الأول، مع حالة من التردد الواضحة في خوض مخاطر الخروج من المنزل لأجل تلبية احتياجات الحياة اليومية أو لتناول الطعام في الخارج. ولقد أسفر ذلك بدوره عن ظهور العلة الأخرى التي تمثلت في انخفاض رهيب على الطلب، تلك المشكلة التي انتشرت وتغلغلت في أوصال الاقتصاد الأميركي كافة منذ بدء اندلاع الأزمة الصحية الأخيرة وتبعاتها الكبيرة.
من شأن الخوف الكبير من الفيروس أن يتراجع شيئاً فشيئاً عن طريق ظهور اللقاحات المضادة له، والتي ربما تكون متاحة مع حلول أوائل عام 2021 المقبل. كما من شأن البرنامج الوطني للاختبار ومتابعة الاتصال – ذلك الذي عارضه الرئيس دونالد ترمب بشدة ولفترة مطولة من الوقت – أن يساعد في جهود احتواء وباء كورونا المستجد والسيطرة عليه؛ مما ينبغي أن يكون على رأس أولويات الإدارة الأميركية القادمة. غير أنه حتى مع زوال فيروس كورونا المستجد تماماً من شأن اقتصاد الولايات المتحدة أن يعاني من الإحباط والركود لفترة معتبرة من الوقت، سيما مع أعباء البطالة التي تحاول جاهدة أن تشق طريقها بشق الأنفس في خضم الأجواء القاتمة الراهنة.
ومع ذلك، فإن تدابير الإغاثة الجريئة – من النوع الذي أعان الكثير من المواطنين الأميركيين خلال الأيام الأولى حالكة السواد من بدء انتشار الوباء – من غير المرجح أن تكون وشيكة الحدوث نظراً لحالة التحول الحتمية صوب سياسات التقشف التي يعتمدها الأعضاء الجمهوريون من مجلس الشيوخ الأميركي. وينسحب المعنى نفسه على حزم الحوافز المالية التقليدية، مثل زيادة مستويات الإنفاق على البنية التحتية الأساسية، والتي ربما تساعد في إعادة الطلب إلى مستوياته الطبيعية لما قبل أزمة الوباء. ولكن قد تكون هناك فرصة سانحة لاتخاذ التدابير الأكثر استهدافاً إزاء معاونة قطاعات الاقتصاد الأميركي التي ألحق بها فيروس كورونا المستجد أشد الأضرار بأكثر من غيرها، ونقصد بذلك قطاع الخدمات المحلية.
هذا، ولقد تعرضت المطاعم، والمحال التجارية، والمؤسسات الخدمية الأخرى التي توفر خدماتها المستمرة إلى العملاء بصورة شخصية، إلى حالة شبه عامة من الإفلاس وبأعداد كبيرة. وربما بعد زوال تهديد الفيروس من الأجواء أن تحاول الحكومة الأميركية إنعاش الاقتصاد المحلي من خلال دعمها افتتاح المتاجر الجديدة، ومحاولة ملء واجهات المتاجر الخالية راهناً من أي بضائع أو سلع ضمن المشهد الحضري الأميركي واسع النطاق. ومن شأن بعض من هذه المؤسسات أن تعمل تحت إدارة الملاك السابقين أنفسهم الذين شهدوا بأعينهم انهيار أعمالهم خلال أزمة الوباء، في حين سوف يجري تشغيل عدد من المؤسسات الأخرى بواسطة الملاك الجدد المغامرين. غير أن الجميع سوف يستطيعون في خاتمة الأمر الاستعانة بالتجمعات المحلية من العاطلين عن العمل، والذين كان أغلبهم يعمل في تلك الأنواع نفسها من المؤسسات والشركات منذ عام 2019.
يعد الدعم الحكومي الأميركية لافتتاح الشركات المحلية الجديدة مهماً في تحقيق عدد من الأهداف في آن واحد. فمن شأنه إعادة المواطنين إلى العمل في الوظائف التي يعرفونها ويملكون المهارات الكافية للاضطلاع بمهامهم فيها، كما سوف يبدأ في ضخ الطلب من خلال النظم الاقتصادية البيئية المحلية. وسوف يساعد ذلك بدوره في الحيلولة دون ملء مساحات أعمال التجزئة التجارية في المدن بالوظائف الشاغرة سيئة السمعة، تلك الآفة التي تلحق الأضرار الكبيرة بالأعمال التجارية القابلة للتطور والنمو في المدن. كما من شأن ذلك أن يساعد في المحافظة على فئة الأعمال والشركات الصغيرة واستدامتها.
قد يجعل هذا المحور الأخير من الإعانات الحكومية لتأسيس الشركات المحلية الجديدة من الأمور ذات الجاذبية في وجهة نظر أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين، سيما وأن أصحاب الأعمال الصغيرة هم من أوثق الفئات الموالية للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة. ومما يُضاف إلى ذلك، سوف تكون هذه السياسة الجديدة شديدة الاستهداف، فمن شأن الإعانات المالية الحكومية أن تستمر فقط حتى ضمان تغطية الشواغر التجارية الراهنة بصورة كافية؛ مما يعني الحد من تكلفة البرنامج بأسره، مع تفادي ظهور آفة توزيع أموال الإعانة بصورة عشوائية غير منظمة.
ربما يساور أنصار الأسواق الحرة قدر من القلق بأن هذه الخطة سوف تؤدي إلى تأخير، أو ربما تحول دون التحول المطلوب في المزيج الصناعي داخل الولايات المتحدة. سيما وأن الوباء الراهن قد أسفر عن تحويل الطلب من الخدمات المحلية المباشرة إلى التجارة الإلكترونية عن بُعد، وبات المواطنون يتابعون البرامج الترفيهية على شبكة «نتفليكس» في المنازل عوضاً عن الذهاب إلى دور السينما، فضلاً عن استمرار طلب مختلف البضائع والسلع عبر موقع «أمازون» بدلاً من الخروج لابتياعها من المتاجر والمحال كما كانوا يفعلون من قبل. وسوف يطرح البعض الأسئلة عما إذا كان عكس هذا التحول الراهن ينبغي أن يكون من الأولويات الاقتصادية لدى الإدارة الأميركية المقبلة.
بيد أن الفائدة المحققة من إنعاش اقتصاد الولايات المتحدة على الصعيد المحلي بوتيرة سريعة وبتكلفة منخفضة، تتجاوز وتفوق كثيراً المخاطر المحققة من التأخير الطفيف في التطور صوب شبكة الإنترنت في المستقبل. وفي واقع الأمر، من شأن الإعانات الحكومية لتأسيس الشركات المحلية الجديدة أن يؤدي إلى تسريع الخطوات المتواجدة بالفعل، فلقد كانت الابتكارات الجديدة في عالم الأعمال من التوجهات الممتازة والمرتفعة اعتباراً من أغسطس (آب) من العام الحالي؛ إذ يستفيد رواد الأعمال الجدد أيما استفادة من الإيجارات الرخيصة، ومن العمالة ذات الأجور المنخفضة. يحاول الاقتصاد الأميركي المحلي أن يستعيد ثقته بنفسه على نحو تدريجي – وهو في ذلك قد يستفيد كثيراً من دفعة التحفيز الحكومية من أجل المساعدة على الاستمرار وإنجاز المهمة بوتيرة أسرع.