تكاثرت في الأشهر الأخيرة الأنباء والتقارير عن «تنظيم داعش» في سوريا، وحسب المعلومات، فإن مناطق الشرق السوري، كانت المسرح الأهم لعمليات يقوم بها «داعش»، وشهدت أيضاً عمليات ضده من أطراف مختلفة، وشاركت في العمليات المتبادلة إضافة إلى «داعش» قوات نظام الأسد، والميليشيات الإيرانية، برعاية ودعم روسي من جهة، و«قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة، وقوات التحالف الدولي من جهة ثانية.
ويتطلب الحديث عما تشهده المنطقة من عمليات، وقفة مدققة عند الظروف المحيطة بالمنطقة، ووضعية سكانها، والقوى المسلحة الأساسية المتحكمة فيها، الأمر الذي يمكن أن يلقي الضوء على ما يحدث، ويبين حقيقة الوضع هناك، وما يمكن أن يصير إليه في المرحلة المقبلة.
تشكل محافظة دير الزور نقطة المركز في منطقة الشرق السوري، ويحدها من الشرق خط الحدود السوري - العراقي، متضمناً معبري البوكمال والقائم، وتحدها من الشمال محافظة الحسكة، ومن الغرب محافظتا الرقة وحمص، وتجاورها الأخيرة إلى جانب أراضٍ عراقية من الجنوب، ويجعلها موقعها محصورة بين مناطق تسيطر عليها بالكامل أطراف موصوفة بالعداء المعلن لتنظيم «داعش» وتتشارك في الحرب الشاملة ضده. حيث تنتشر في الشرق القوات العراقية، تشاركها فصائل من «الحشد الشعبي» العراقي، التي أقامت في العام الماضي قواعد لها قرب الحدود السورية - العراقية، ويشمل الانتشار العسكري في محافظة دير الزور ومدينتها قوات من طرفين؛ الطرف الأول يضم قوات نظام الأسد، وقوات إيرانية، وبجانبهما ميليشيات إيرانية، وجميعها تحظى بدعم القوات الروسية، والطرف الثاني مؤلف من «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية عصبها الرئيسي، وتدعمها القوات الأميركية الموجودة في المنطقة، وقوات التحالف الدولي ضد «داعش».
وتعرضت منطقة الشرق السوري طوال السنوات الماضية لحروب ومعارك، دفعت جزءاً من سكانها للنزوح، وجعلت الباقين منهم وقوداً للحرب، سواء التي شنّها التنظيم على سكان المنطقة، كما في حربه ضد عشائر الشعيطات في العام 2014، والتي انتهت بسيطرة «داعش» على المنطقة، أو في حروب الأطراف المختلفة على «داعش»، والتي تجنبت أو تجاهلت لأسباب مختلفة التمييز بين «داعش» وأهالي المنطقة، وقد حوّلهم التنظيم إلى دروع بشرية على نحو ما كانت معارك الباغوز، التي أعلنت نهاية التنظيم في ربيع 2019. وقيل في حينها إن آلافاً من مدنيين كانوا محتجزين لدى التنظيم، قتلوا في معارك الباغوز، وكان ذلك تكراراً لما حدث خلال معارك تحرير مدينة الرقة من تنظيم «داعش» عام 2017، التي قتل فيها آلاف المدنيين، كان يحتجزهم «داعش» سجناء أو دروعاً بشرية في المدينة.
وإذا كانت معارك تحرير الشرق السوري، أدت إلى مقتل غالبية مقاتلي التنظيم، واعتقال من تبقى حياً، وخاصة المقاتلين الأجانب وقادة التنظيم الذين سلموا أنفسهم بدون معارك، والمشتبه بهم من المدنيين وإحالتهم إلى معتقلات التنظيم، فإن الأعداد القليلة من خلايا التنظيم النائمة، وفي ظل هزيمة التنظيم من جهة، والملاحقة المتواصلة من جهات متعددة، بمن فيهم أهالي ضحايا التنظيم، لا يمكن أن تساعد التنظيم على استعادة حضور «داعش» وعملياته في منطقة سيطرة خصومه إلا من خلال غضّ بصرهم، إن لم نقل بموافقتهم الضمنية، وهو أمر يشمل كل أطراف السيطرة العسكرية في الشرق السوري، ذلك أن ظهور «داعش» وشنّ عمليات وعمليات مضادة له في المنطقة، يلبي أهدافاً مشتركة لكل قوى السيطرة العسكرية، ولعل أهم وأول هذه الأهداف، سعي كل واحد من الأطراف إلى تشديد قبضته العسكرية في منطقة سيطرته تحسباً للمرحلة المقبلة، سواء شهدت صراعات محلية ميدانية، أو ذهبت الأطراف إلى توافقات أو تسويات سياسية، يعتمد فيها كل طرف على ما له من قوة سيطرة على الأرض، والهدف الثاني المشترك لقوى السيطرة، سعي كل منها إلى تأكيد موقفه، ليس فقط في استمرار حربه على الإرهاب، بل في محاربة «داعش» باعتباره موقفاً يخلق مشتركات بين قوى وأطراف، بينها اختلافات وصراعات في الموضوع السوري.
وثمة هدف ثالث مشترك لكل الأطراف، وهو استغلال موضوع «داعش» في المنطقة للتغطية على سياسات وإجراءات يتم القيام بها، ولا يريد أصحابها شيوعها والتفاعل معها، وليس هناك ما هو أكثر أهمية من موضوع «داعش» في إشغال الرأي العام، والتغطية على موضوعات مصنفة بأنها أقل أهمية، والأمثلة في هذا كثيرة، ولعل أبرزها أن دخول نظام الأسد على موضوع «داعش» في المنطقة، لا يؤكد وجوده فيها بما لها من أهمية وما فيها من ثروات، يتطلع النظام للمشاركة فيها أو وضع اليد عليها مجدداً، بل يتجاوز ذلك للقول إنه مشارك في الحرب على إرهاب «داعش» وهي نقطة تساهم في تقديمه للمجتمع الدولي، وإعادة التطبيع معه.
كما أن طرح موضوع «داعش» في المنطقة من شأنه التغطية على سياسات إيران وجهودها في دير الزور، والهادفة إلى تشييع سكان المنطقة، وتنظيمهم في ميليشيات، توفر سيطرة محلية لإيران، وتساعدها في السيطرة على معبر البوكمال مع العراق وامتداده في الطريق نحو العمق السوري سواء باتجاه دمشق أو باتجاه الساحل السوري، كما يغطي موضوع «داعش» على سياسات وممارسات «قوات سوريا الديمقراطية» في المنطقة، وخاصة موضوعين شديدي الأهمية؛ أولهما الحرب التي تشنها ضد العشائر العربية وعدد من شيوخها، والتي تربطها «قسد» بالحرب على «داعش»، بينما هي في الأصل جزء من تصادم السياسات بين العشائر العربية و«قسد»، التي تتابع سياسات عنصرية ومتطرفة ومتشددة رغم شعاراتها البراقة، ومنها الاستمرار في تجنيد الأطفال، وإصدار قرار إدارة أملاك الغائبين، الذي يعني الاستيلاء على ممتلكات سكان المنطقة المهجرين، وقد قوبل برفض واسع من كل الأطراف، بمن فيهم الأكراد، ما أجبر «قسد» على وقف تنفيذه.
إن أهمية حضور «داعش» في شرق سوريا، تبدو كبيرة وذات فائدة مشتركة ومتعددة النتائج لكل قوى السيطرة العسكرية هناك، ما يجعلها تسعى متشاركة لتثبيت «داعش» هناك، سواء عبر عودته أو استدعائه، خاصة في ظل مساعي أطراف محلية لإبراز تحالف سياسي جديد من أبناء المنطقة، يضم عرباً وأكراداً وآشوريين، تم تأسيسه مؤخراً باسم جبهة السلام والحرية، يمكن أن يساعد في تهدئة الصراعات المسلحة، ويشكل منافساً حقيقياً لـ«قسد» في المنطقة.