بين القمة العربية، التي تلتئم على ضفاف جدة، بالمملكة العربية السعودية، يوم الجمعة المقبل، وبين قمة الخرطوم، المنعقدة في عاصمة السودان، قبل أكثر من خمسة عقود، أوجه شبه عدة، ونقاط اختلاف جوهرية. تشابه ظروف التئام القمتين يربط ماضياً يرجع بالزمن ستة وخمسين عاماً، مع حاضر واقع عربي يؤلم العرب أجمعين، على امتداد بلدانهم، من ضفاف المحيط الأطلسي، إلى شواطئ الخليج العربي. جوهر النقاط التي تجعل القمة الثانية والثلاثين تختلف كثيراً عن رابع القمم العربية، يتركز أساساً، وفق تقديري، على وجود نهج جديد في تعامل العرب مع قضاياهم الذاتية، أي تلك التي تخصهم تحديداً، دون غيرهم، ومع قضايا دولية ذات أبعاد متعددة، وهي بالضرورة تعنيهم مثلما تعني البشر جميعاً. هكذا تقدير ربما يتفق معه بعض المهتمين بتحليل وفهم تقلبات أحوال الأمم، ومن الجائز أن يعترض عليه كثيرون، لذا من المهم أن يُنظر إليه ضمن إطار اجتهاد ذاتي، غير مفروض على أحد.
تشابه قمة جدة مع قمة الخرطوم، المنعقدة نهار التاسع والعشرين من ثامن شهور عام 1967، يتجلى في أن تلك القمة التأمت في ظل وضع انكسار عربي أعقب هزيمة العرب في حرب 5 يونيو (حزيران) من العام ذاته. إذا كانت أحزان تلك الكارثة لم تزل تنزف ألماً في ذاكرة جيل معاصريها، فإن شظاياها أصابت، في الصميم، الأجيال العربية التي وُلدت، ثم نشأت، ولعلها شابت، طوال أعوام تلتها. تلك الإصابة لا تزال مستمرة يعانيها الجيل المعاصر في جوانب شتى من مجالات الحياة، بمعنى أن استحضار تأثيرها المدمر، ليس مجرد رغبة في الحنين إلى أوجاع ماضٍ تولى، قدر ما هو حقيقة قائمة على أرض الواقع. أين، إذاً، وجه التشابه بين انكسار ذلك الزمن، والوضع الذي تنعقد في أجوائه قمة جدة؟ إنه، باختصار، واضح على نحو ليست تخطئه عين تبصر، ولا يستعصي فهمه على عقل يدرك، في كل ما آلت إليه أوضاع أكثر من مجتمع عربي، منذ انفجار موجات ما سُمي «الربيع العربي»، وما جلبت معها من تمزق ودمار فاق تأثيرهما كل تصور، وتدفع شعوب عربية عدة الثمن الفادح لما ترتب عليهما.
يبرز أيضاً بين أوجه تشابه ظروف القمتين، كيف أن الدور السعودي حاسم في لم الشمل العربي. اتضح هذا الأمر جلياً آنذاك، وهو واضح جداً الآن. فلولا أن المملكة العربية السعودية، بزعامة الملك فيصل بن عبد العزيز، اتخذت الموقف الشجاع والحكيم، بوضع الخلاف مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر، جانباً، والإقدام، مِن ثم، على قيادة قاطرة العالم العربي، خلال ذلك الظرف الصعب، لما قيض، على الأرجح، لقمة الخرطوم النجاح في بدء مشوار إزالة آثار ما حصل على الأرض العربية جراء كارثة الهزيمة. الشيء ذاته، قياساً، جرى بوضوح خلال الأسابيع القليلة التي مضت. فالمواقف العقلانية، التي اتخذتها الرياض، بتوجيه خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، وما بُني عليها من قرارات عملية، باشر تنفيذها مجلس الوزراء بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، كل ذلك جهد متميز هيأ ما لزم من أجواء التئام قمة جدة، وتمهيد سبل النجاح أمامها بأمل أن تشكل انطلاقة جديدة، تحول دون تدهور الوضع العربي إلى الأسوأ.
الحق أن العالم العربي بأمسِّ الاحتياج لانطلاق جديد يقوم على أسس تختلف تماماً عما قام عليه عالم العرب قبل ستة وخمسين عاماً، وأوصل إلى كارثة 1967. الاختلاف المأمول يجب أن يشمل مناهج التفكير في دوائر صنع القرار، بشكل أساس، وأطُر نُخَب المفكرين التي تعين المسؤول، من خلال طرح رؤى تستبعد الهوى الذاتي، وتقدم النُصح القائم على صفاء نيّات، والذي يتوخى الصالح العام، وليس الاكتفاء بمجرد دغدغة أحاسيس، أو إرضاء «أنا» الذات، سواء لدى المتلقي، أو الناصح ذاته. ضمن هذا السياق، يمكن ضرب مثال من مرور سبعة وخمسين عاماً يوم أول من أمس (الاثنين) على نكبة فلسطين. لو أن معظم القيادات، وأغلب الزعامات، على المستويين الفلسطيني أولاً، والعربي ثانياً، اعتمدت نهج استبعاد غرور «الأنا»، وقدمت مصالح الناس على برامج وطموحات أحزاب وتنظيمات، لما كان حال قضية فلسطين انتهى، على الأرجح، إلى ما هو عليه. حسناً، لعل قمة جدة تشكل انطلاقة جديدة على هذا الصعيد المصيري أيضاً، بل إن ذلك مأمول ومطلوب.