اهتمام واسع حظيت به النقاشات التي دارت في منتدى صحيفة «البلاد» البحرينية، حيث استضاف في أبريل (نيسان) الحالي، رئيس الاستخبارات السعودي السابق الأمير تركي الفيصل، الذي تحدث عن تطورات الملف الإيراني، والمفاوضات الجارية في العاصمة النمساوية فيينا، حول اتفاقية «العمل المشترك»، ومساعي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الرامية لإعادة إحياء الاتفاق الذي انسحبت منه إدارة سلفه دونالد ترمب.
وزير الخارجية المصري السابق عمرو موسى، ورئيس مجلس تحرير قناة «العربية» عبد الرحمن الراشد، والأستاذ الجامعي الدكتور محمد الرميحي، هذه الشخصيات بما لديها من خبرة، ومعلومات، قدمت هي الأخرى وجهات نظر متعددة، أثناء الحوار مع الفيصل.
إن أهمية ما طرح من أفكار، أنها عُرضت بطريقة علمية، تسعى لأن تحلل الوضع القائم، وتدرس الأسباب التي تدفع إدارة الرئيس بايدن إلى الحوار مع النظام الإيراني، في الوقت الذي تستمر فيه طهران في ممارسة سياسات توسعية، تعتبرها دول الخليج العربية، وتحديداً السعودية والبحرين والإمارات، مصدر تهديد للأمن الإقليمي.
كثير من المحللين والكتّاب، تناولوا الملف الإيراني، سواء في الفضائيات أو الصحف، وصولاً لشبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن معضلة كثير منهم السطحية، والعاطفة، والحماسة، وعدم قراءة الأحداث بعقلٍ تحليلي سياسي.
إيران دولة مؤثرة في الإقليم، والدور السلبي الذي تقوم به حالياً، بإمكانها تغييره نحو الإيجابية إذا تبدلت سياساتها. ولكي نفهم الدور الذي تقوم به، فعلينا أن نرصد أدواتها التي تستخدمها في السياسة الخارجية، الناعمة منها أو تلك الخشنة. لأنه ليس هنالك مستوى واحد من الخطاب، بل هنالك طرائق متنوعة في التعبير عن هذه السياسات، تصل أحياناً إلى حد التناقض والتضارب، وإن اتفقت على تحقيق ما تعتبره مصالح إيرانية عُليا.
هنالك في إيران تيار ثوري، عقائدي، ينظر بعين الازدراء لمن يعارضه، سواء كان هؤلاء المعارضون من الداخل، أو دول الجوار. لنتذكر كيف تعامل هذا التيار بعنف مع «الثورة الخضراء»، والتضييق الذي طال وجهين من المشاركين الأوائل في الثورة: الشيخ مهدي كروبي، ومير حسين موسوي، وكلاهما وضعا لسنوات تحت الإقامة الجبرية، رغم علاقتهما الباكرة بمؤسس الجمهورية آية الله الخميني!
هذا التيار «المتشدد» رأس حربته «الحرس الثوري»، الذي بات دوره أكبر مما سبق إبان تأسيس الجمهورية الوليدة. إلا أن العسكر بات لهم تأثير في الاقتصاد والصناعة والسياسة والثقافة أيضاً. وهذا التيار له وجوهه المدنية التي تعبر عنه، وأيضاً رموزه الدينية التي يتم إبرازها قبالة بقية علماء الدين ممن لا يتبنون خطابه.
هنالك في المقابل، تيار هو من صلب «الثورة»، إلا أنه يؤمن بأن الحفاظ على مصالحها لا يتم عبر «عسكرة النظام» أو العلاقات المضطربة مع دول الجوار. وهذا التيار من أبرز منظّريه الحاليين الرئيس حسن روحاني، ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، إلا أنهما رغم التأييد الشعبي الواسع الذي يحظيان به، لا يستطيعان مواجهة التيار «الراديكالي»، خصوصاً أنهما لا ينالان مباركة المرشد آية الله علي خامنئي، الذي هو بمثابة «بيضة القبان».
الشعب الإيراني، في معظمه، كبقية جيرانه، يريد أن يعيش في دولة مستقرة، آمنة، بعيداً عن الحروب، ومن دون أن تصرف ميزانياته في تمويل الميليشيات في العراق واليمن ولبنان. وهو في تكوينه غير معادٍ للغرب، بل متأثر بالنموذج الليبرالي، ولم تستطع قيمُ الثورة أن تبعده عن الانجذاب نحو «الثقافة الأميركية الليبرالية»، وهذا السلوك له جذوره التي تعود لأيام حكم الشاه محمد رضا بهلوي، ولوجود صلات عائلية واسعة بين إيرانيي الداخل، وأقربائهم في أوروبا والولايات المتحدة وكندا.
هنالك تعقيدات كبيرة في السياسة الإيرانية، وهذه التشابكات سعى المشاركون في منتدى «البلاد» لمحاولة فهمها، وتفكيكها، وقراءتها بعقلٍ غير انفعالي.
وجود ورش عمل جدية، تخصصية، يشارك فيها خبراء في السياسة الإيرانية، وأصحاب رؤى استشرافية، أمرٌ ملحٌ، لكي تستطيع هذه الحلقات تقديم «رؤى استشرافية» يستفيد منها صنّاع السياسات في دول الخليج.
هنالك تطورات مهمة، وأحداث قد تغير من مسار المفاوضات الجارية بين إيران والولايات المتحدة، خصوصاً بعد الهجوم الأخير على منشأة «نطنز» النووية؛ وردة الفعل الإيرانية المرتقبة، والتي قد تأتي عاجلاً أو تالياً، داخل الأراضي الإسرائيلية كما أعلن الإيرانيون عزمهم، أو ضد مصالح إسرائيلية في الخارج، وقد يكون عبر «الحرب السيبرانية» أو «حرب السفن»!
خليجياً، الأهم أن تكون هنالك سياسات واقعية عملية تحفظ مصالح دول الخليج، وتدفع إيران لتغيير سياساتها «التوسعية»، وانتهاج الحوار طريقاً وحيداً لحل المشكلات، وهو أمر فيه مصلحة الإقليم، واستقراره، إذا عزمت على ذلك فعلياً، وقدمت مبادرات حُسن نوايا، تكون مدخلاً للحل السياسي الشامل.
إن دول الخليج لا تريد الحرب والفوضى، لأن لديها مشاريع للتنمية، وبناء المستقبل، تود أن تستثمر فيها أموالها وطاقات شعوبها، إلا أنها في الوقت نفسه لن تقبل بأن يكون النظام الإيراني مهيمناً على المنطقة بمباركة دولية، وهي بما لديها من قوة اقتصادية وسياسية وأمنية، قادرة على وضع سياسات فعالة، تدفع النظام في إيران نحو تبني خيار «الاتزان» والبعد عن العنف، والإيمان أن أمن الخليج هو مصلحة مشتركة، لا تتم بدون اتفاق بين العواصم كافة.