على صعيد الدبلوماسية الأميركية، لم يكن النصف الثاني من مارس (آذار) ناجحاً. في 18 مارس، استضاف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، اثنين من كبار الدبلوماسيين الصينيين في ألاسكا، وحرص بلينكن على تذكير وسائل الإعلام العالمية بالشكاوى الأميركية ضد الصين، مثل التعامل مع إقليم شينغيانغ وهونغ كونغ، والتهديدات الصينية لتايوان، والضغوط الاقتصادية الصينية ضد دول مثل أستراليا.
وبعد ذلك، تعهد الرئيس جو بايدن، في 25 مارس، بعدم السماح للصين بالتحول إلى قوة رائدة على مستوى العالم. ويجد بايدن وبلينكن من الضروري اتخاذ هذا الموقف القوي ضد الصين، لأنهما بحاجة إلى أصوات الجمهوريين داخل الكونغرس من أجل أولويات بايدن مثل إصلاح قوانين الهجرة وتمويل بناء بنية تحتية جديدة. إضافةً إلى ذلك، يعتقد كلا الرجلين بقوة أن دفاع الولايات المتحدة عن حقوق الإنسان والديمقراطية أمرٌ حيويٌّ للحفاظ على الشرعية الأميركية في العالم.
في المقابل، جاء الرد العلني للفريق الدبلوماسي الصيني في ألاسكا قوياً وغاضباً. أولاً: انتقد الصينيون الجانب الأميركي لخرقه البروتوكول الدبلوماسي. وشدد وزير الخارجية الصيني على أن العقوبات الأميركية الجديدة ضد الصين ليست أسلوباً لائقاً للترحيب. واتهم كذلك واشنطن بالنفاق عندما تشكو من الضغوط الاقتصادية الصينية في ذات الوقت الذي تلجأ فيه إلى العقوبات أغلب الوقت.
كما أكد مدير الشؤون الخارجية بالحزب الشيوعي الصيني، يانغ، أنَّ الولايات المتحدة ليست المتحدث الرسمي باسم الرأي العام الدولي، وينبغي لواشنطن التوقف عن تدخلاتها بهدف تغيير الأنظمة، والتركيز على إصلاح إخفاقاتها في مجال حقوق الإنسان، على سبيل المثال، المشكلات التي تجابه مجتمعات أصحاب البشرة السمراء، وشدَّد يانغ على رفض بكين لـ«النظام الدولي القائم على القواعد» الأميركية.
ومن وجهة نظر الصين، يعد هذا النظام صنيعة عدد صغير من الدول فقط، وتفضل الصين بدلاً عن ذلك نظاماً دولياً تشكّل الأمم المتحدة مركزه.
وبعد الصفعة التي وجَّهتها إلى الجانب الأميركي في ألاسكا، حظيت الدبلوماسية الصينية بنجاح آخَر في 23 مارس عندما التقى وزيرا خارجية روسيا والصين، وجاءت تصريحات سيرغي لافروف المعلنة مطابقة لما قاله الصينيون في ألاسكا.
من جهته، أشاد لافروف بتعيين الأمم المتحدة محققاً خاصاً لفحص استخدام دول للعقوبات الاقتصادية أحادية الجانب، ويكاد يكون من المؤكد أنَّ التقرير سينتقد سياسة العقوبات الأميركية.
وفي اعتقادي الشخصي، ترغب الصين وروسيا في أن تحتل الأمم المتحدة موقعاً محورياً في النظام العالمي، خصوصاً أنَّ كلا البلدين يتمتع بحق النقض (فيتو) داخل مجلس الأمن وبإمكانهما اعتراض طريق أي إجراء لا يروق لهما من الأمم المتحدة. وتعد سوريا نموذجاً لكيف يمكن لنظام يعمل تحت مظلة الأمم المتحدة إدارة أزمة ما.
كما أحرزت الدبلوماسية الصينية مزيداً من المكاسب بعد الاجتماع مع الجانب الروسي. كان وزير الخارجية الصيني قد وصل إلى أنقرة في 28 مارس، وتواترت أنباء عن توجيه استثمارات صينية بقيمة ملياري دولار لمشروع طريق في إسطنبول. جدير بالذكر، في هذا الصدد، أنَّ الصين قدمت تمويلاً بقيمة مليار دولار للاقتصاد التركي غير المستقر خلال عام 2019، ولا تزال تركيا اليوم بحاجة لمزيد من الاستثمار.
وفي الوقت الذي وجهت واشنطن انتقادات إلى انتهاكات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حقوق الإنسان، وهدَّدت أكثر عن مرة بفرض عقوبات، توفر بكين مزيداً من التمويل له.
وفي 27 مارس، وقّع وزير الخارجية الصيني في طهران اتفاقاً للتعاون الثنائي طويل الأمد ربما يؤدي إلى ضخ استثمارات صينية في البنية التحتية الإيرانية بقيمة 400 مليار دولار. ومن شأن هذا الاتفاق، ضم إيران لمبادرة «الحزام والطريق» الضخمة. كما دعمت الصين الموقف الإيراني القائم على فكرة أنه يجب على واشنطن أولاً رفع العقوبات عن إيران قبل استعادة الاتفاق النووي المبرم عام 2015.
ومع ذلك، لا يزال الصينيون منهمكين في العمل، ففي هذا الأسبوع من المقرر أن يزور وزير الخارجية الصيني عدداً من الدول الخليجية، حيث استغلت بكين بنجاح اللقاح الذي ابتكرته ضد فيروس «كوفيد - 19» كأداة دبلوماسية في دول مثل البحرين والإمارات العربية المتحدة (لم تصدر الولايات المتحدة من جهتها أي لقاحات، ولم يزر بلينكن الشرق الأوسط حتى الآن). وفي إشارة أخرى موجّهة إلى دول منطقة الخليج، أعلنت الحكومة الصينية أنَّها ستعقد مؤتمرها السنوي السادس في دبي، في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
ويقف النجاح الصيني في الشرق الأوسط عائقاً أمام الجهود الأميركية في المنطقة. بيد أنَّ ذلك لا يعني أن النفوذ الأميركي في المنطقة سيتلاشى، فبعد زيارة الوزير الصيني للبحرين ستبقى القاعدة الأميركية البحرية هناك قائمة. كما أنَّ العلاقات الثنائية بين واشنطن وأبوظبي جيدة.
أما الأمر الذي يثير اهتمامي هنا، فهو العلاقات بين واشنطن وموسكو وبكين. في الواقع، أنا سعيد بتوجيه بايدن الدعوة إلى روسيا والصين للمشاركة في مؤتمر في أبريل (نيسان) حول التغييرات المناخية، ذلك أنَّ القوى الثلاث بحاجة إلى إيجاد سبل للتعاون.
والحقيقة أنَّه ليس هناك بين الدول الثلاث مَن يمكن وصفه بالمَلاك، فجميعها تخوض لعبة السياسات الدولية الصعبة. إلا أنني قلق إزاء التقارب الروسي - الصيني في مواجهة الولايات المتحدة على الصعيد الجيوستراتيجي. ورغم أنَّ الاقتصاد الروسي يكافئ اقتصاد إيطاليا، تبقى روسيا قوة مهمة عسكرياً وسيبرانياً.
من جهته، نجح وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر منذ خمسين عاماً ماضية في بناء تحالف غير مباشر مع الصين فرض عزلة على موسكو. اليوم، تخدم العزلة التي تعانيها الولايات المتحدة داخل مثلث واشنطن - موسكو - بكين مصالح أكبر غريمين لها، والصين من جهتها تدرك هذا الأمر جيداً.