تمثل التحديات التي يفرضها فائض الصين على الآخرين سؤالاً محورياً في نقاشات السياسة الاقتصادية العالمية، وهناك من يرى أن على الصين زيادة إنفاقها الاستهلاكي المحلي، وإعادة توجيه المدخرات التي تصدرها إلى الخارج.
ولا شك في أن ذلك يصب في مصلحة الصين، فالبلاد تضم عدداً كبيراً من الفقراء، الذين يمكنهم الاستفادة من فوائض الصين أكثر من المستهلكين الأمريكيين، لكن استعداد السلطات الصينية للقيام بذلك موضع شك، والسياسة متقلبة، إذ يبدو أن الصين تعزز الطلب المحلي بيد وتقلصه باليد الأخرى.
ولنفترض أن الصين تحافظ على سياسات محلية تنتج فوائض، لأنها لا تريد أو لا تستطيع إيجاد أدوات السياسة لإعادة توازن اقتصادها الكلي، لكن هذا يقوض النمو، وخصوصاً التصنيع في الاقتصادات الأخرى. عموماً هناك بعض الأسباب التي تدفع للاعتقاد بأن فائض الصين ليس بالضرورة أمراً سيئاً، بل قد يكون قوة للخير.
القول إن فائض الصين قد يكون أمراً جيداً، وأحد أسباب ذلك هو معرفتنا بأمثلة تاريخية أسهمت فيها فوائض الصادرات الكبيرة، وعجز الواردات في نمو أقوى، بل وحتى في توسع التصنيع في كل من الاقتصادات ذات الفائض والعجز.
أهم مثال تاريخي هو، بالطبع، السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة أكبر مصدر صافٍ للسلع ورأس المال، وقد فرضت فوائضها آنذاك على عالم أعزل، أو بعبارة أخرى صنعت وشحنت منتجات سمحت لأوروبا التي مزقتها الحرب بالاستهلاك والاستثمار أكثر مما كان يمكنها القيام به.
ولذلك فإنه في سنوات ما بعد الحرب مباشرة حققت الولايات المتحدة فوائض خارجية، تجاوزت عادة 2 % من ناتجها المحلي الإجمالي، وأحياناً بفارق كبير، وهذا يقارن بالصين اليوم (مع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة كانت تمثل حصة أكبر بكثير من الاقتصاد العالمي آنذاك، لذلك فإن فائضها كان «أسوأ» من فائض الصين اليوم).
ووفقاً لمنطق شائع فلا بد أن هذه «الطاقة الفائضة» الأمريكية قد قوضت التصنيع في أماكن أخرى، خصوصاً في الاقتصادات ذات العجز، ولكن العكس هو الصحيح، فقد نما الإنتاج الصناعي في أوروبا الغربية بقوة بعد الحرب، وينطبق الأمر نفسه على الإنتاج الزراعي.
ومن الواضح أن هناك العديد من الاختلافات بين اقتصاد ما بعد الحرب مباشرة واقتصاد اليوم، والفكرة ببساطة هي كيف تظهر تجربة ما بعد الحرب أن الأرصدة الخارجية الكبيرة تتوافق مع النمو القوي للصناعات التحويلية في كل من الاقتصادات ذات الفائض والعجز في الوقت نفسه، لكن هذا الاحتمال مستبعد في كثير من نقاشات الفوائض والعجز اليوم.
وإذا كانت «الاختلالات العالمية» حميدة في الماضي فهل يمكن أن توجد اليوم اختلالات حميدة مماثلة؟ وما الذي يتطلبه الأمر لتحقيقها؟ على وجه الخصوص هل يمكن أن يكون فائض الصين حميداً للعالم (ولنفسها) كما كان فائض الولايات المتحدة في أواخر الأربعينيات؟ وإن لم يكن كذلك فلماذا؟ ما الاختلافات الرئيسية عن سنوات ما بعد الحرب التي تجعل ما حدث سابقاً لا يمكن أن يتكرر؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة لا تقل أهمية عن التفكير في كيفية خفض الأرصدة الخارجية الحالية، بل هي أكثر أهمية، لأن خفضها قد يكون سياسة أسوأ من جعلها تعمل لصالحنا، كما حدث في أواخر أربعينيات القرن الماضي.
وكانت سياسة الولايات المتحدة هي تخفيف «نقص الدولار» في أوروبا، وهو المصطلح الذي يشير إلى ضعف قدرة العالم القديم على سداد ثمن الواردات، من خلال صادرات كافية (أو أرباح الاستثمار الأجنبي؛ إذ سويت أصول أوروبية ضخمة في الخارج خلال الحرب).
بعبارة أخرى سعت الولايات المتحدة إلى تعزيز القوة الشرائية لأوروبا، من خلال المنح والقروض – وهي ما يطلق عليه مصطلح «آلية إعادة تدوير فائض الدولار».
الجواب الأساسي عن سبب ازدهار كل من أمريكا الفائضة وأوروبا العاجزة وتعزيز إنتاجهما الصناعي هو أن أرباح فائض الولايات المتحدة استخدمت في استثمارات إنتاجية في أوروبا، وإعادة بناء وتحديث البنية التحتية والمصانع التي دمرت في الحرب، وربما كانت هناك ثلاثة عوامل رئيسية وراء ذلك:
العامل الأول هو ببساطة تخفيف القيود الاقتصادية، فقد أسهم تدفق الأموال والسلع في تسهيل تمويل الاستثمارات، كما سهل على الحكومات الأوروبية التي تعاني من ضائقة مالية إدارة سياسات مالية ونقدية مستقرة.
العاملان الثاني والثالث كانا سمتين مؤسسيتين للجزء الأكثر شهرة من آلية إعادة هيكلة الفوائض الأمريكية: خطة مارشال، فقد تطلبت هياكل التخطيط التي تقودها الولايات المتحدة، والتي ارتبطت بها أموال مساعدات مارشال، من جهة، تكامل الاقتصادات الوطنية للدول المستفيدة.
ومن جهة أخرى، انتقاء محكماً لما يمول. بعبارة أخرى سياسة صناعية ناجحة بما يكفي، بكل المقاييس، لتحقيق معدل نمو مرتفع، وقد ساعد هذا المعدل المرتفع بدوره في استدامة الطلب على الإنتاج الصناعي الأمريكي، الذي يمكن أن يستمر في النمو، فهل يمكن أن توجد آلية إعادة تدوير مماثلة لفائض الصين اليوم؟
ربما لا توجد في الولايات المتحدة، وليس فقط، لأن قادتها السياسيين يبدو أنهم يريدون واردات صافية صفرية، والولايات المتحدة في نهاية المطاف هي الاقتصاد الرائد عالمياً، لذا قد يظن المرء أن إيجاد استثمارات صناعية إنتاجية هناك سيكون أصعب مقارنة بأوروبا التي مزقتها الحرب، إلا أن هذا ليس واضحاً تماماً:
ومن الأمثلة المعاكسة على ذلك طفرة مراكز البيانات والرقائق المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، لكن هل يمكن توجيه فائض الصين إلى مجالات أخرى بشكل منتج؟
يتعلق الأمر في جوهره بما إذا كانت «الطاقة الإنتاجية الفائضة» الصينية مجرد طاقة إنتاجية، أم أن هناك جهات يمكنها الاستفادة من هذه الطاقة في تعزيز نموها، كما فعلت أوروبا سابقاً مع «الطاقة الإنتاجية الفائضة» الأمريكية. إنني أرى أنه إلى أن تتوفر لدى كل دولة في العالم بنية تحتية كافية، وتتمتع كل شركة بإمكانية الوصول إلى الطاقة النظيفة بوفرة، وتتمتع كل أسرة بجميع السلع المعمرة الأساسية، فإن الحديث عن «طاقة إنتاجية فائضة» أمر مبالغ فيه.
وما يجب أن نتحدث عنه هو ما يمنع الدول المستوردة من استيعاب السلع ورأس المال التي تحتاج إليها بشدة بشكل منتج، أو بعبارة أخرى، كيفية إنشاء آلية فعالة لإعادة تدوير الفائض في الصين.
في بعض الأحيان يبدو أن بكين قد أدركت هذا الأمر، ويمكن رؤية بعض قروض البنية التحتية في مبادرة الحزام والطريق في هذا السياق، لكن الصين في كثير من الأحيان تبدو وكأنها تسعى إلى حلول أخرى لمشكلة الفائض، مثل الحد من الصادرات أو محاولة كبح جماح الطاقة الصناعية.
ومن الواضح أن الصين فشلت في إقناع شركائها التجاريين بأن فوائضها مفيدة لنموهم، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى عدم اهتمامها الكافي بجعل هذه الفوائض تسهم في إمكانات نمو المستوردين.
وفي الآونة الأخيرة دأب الدبلوماسيون الصينيون على التأكيد على دور البلاد في الحرب العالمية الثانية، بعد 80 عاماً من انتهائها، ويشير ذلك إلى أن بإمكان الصين الادعاء بأنها شريكة في نشأة النظام الدولي لما بعد الحرب.
لكن هذا النظام بني أيضاً على السياسات الاقتصادية لأواخر الأربعينيات. ولدعم هذه الادعاءات ينبغي على صانعي القرار الاقتصادي في بكين التفكير ملياً في دروس خطة مارشال وما تعنيه آلية إعادة تدوير الفوائض الإنتاجية اليوم.
من الواضح أننا لم نقل الكثير عن أوروبا المعاصرة، بينما هناك الكثير مما يمكن أقوله. أولاً، يشكو الاتحاد الأوروبي من «القدرات الفائضة» الصينية والفوائض تماماً مثل الولايات المتحدة، في حين أنه في نفس الوضع الاقتصادي الكلي للصين من حيث تحقيق فائض كبير مع بقية العالم. إذن لا معنى للشكوى من أن الصين تفعل ما أنتم مذنبون به، إلا في سياق المنافسة البسيطة في أسواق التصدير مع دول ثالثة.
ثانياً، ينبغي لأوروبا ألا تحافظ على نموذجها الفائض مهما فعلت الصين؛ فهي في حاجة ماسة إلى استثمارات رأسمالية محلية، وينبغي لها تمويلها.
ثالثاً، لا تقتصر أوروبا على مثال خطة مارشال، بل تضرب أمثلة أخرى عديدة على تحديات إعادة تدوير الفوائض، مما يلقي الضوء على القضايا العالمية الراهنة، ومن الأمثلة الحديثة المحبطة، عندما مولت فوائض الدول الصناعية الأساسية في الاتحاد الأوروبي طفرة الإنفاق المهدر في دول منطقة اليورو الطرفية في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ولكن في العقد الذي سبق ذلك استغلت الدول الصناعية الأساسية في الاتحاد الأوروبي الفوائض في أوروبا الشرقية، التي تحررت حديثاً.
حيث استفاد قطاع التصنيع في كل من الدول المصدرة والمتلقية من استثمارات رأسمالية صناعية ضخمة عبر الحدود. وكان استيعاب بولندا والاقتصادات المجاورة في سلسلة توريد صناعية، وفي قلبها ألمانيا، مثالاً رائعاً آخر على آلية إعادة تدوير فوائض حميدة، وهذه بالمناسبة دروس تاريخية جديرة بالتأمل.