الشبكة العربية للأنباء
الرئيسية - اقتصاد - مخاطر أزمات مالية عالمية كبيرة تلوح في الأفق

مخاطر أزمات مالية عالمية كبيرة تلوح في الأفق

الساعة 07:21 مساءً

 

 

 

ثمّة تعليق ساخر يتردد منذ وقت طويل، بأن اختصار «آي إم إف»، لا يشير إلى صندوق النقد الدولي، وإنما إلى عبارة «الأمر يتعلق بالناحية المالية غالباً». فقد واصل صندوق النقد دائماً شكواه من غياب الانضباط المالي بالبلدان الغارقة في الأزمات، مثل اليونان والأرجنتين. ولكن في سياق مراقبته الأوسع، كان الصندوق متساهلاً نسبياً بشأن السياسة المالية منذ الأزمة المالية العالمية.

 

كان ذلك في عالم تسوده «أسعار فائدة منخفضة لمدة طويلة»، أو حتى «أسعار فائدة أقل لمدة أطول»، بيد أنه لم يعد هذا هو العالم الذي نعيشه اليوم، وقد تغير الصندوق بدوره. وقد دقت غيتا غوبيناث، النائب الأول للمدير العام لصندوق النقد الدولي، ناقوس الخطر، داعية إلى «التركيز مجدداً على السياسة المالية، ومعها إعادة ضبط عملية التفكير في السياسة المالية». إذن، فقد أصبح صندوق النقد الدولي «مالي غالباً» من جديد.

 

لا ريب في بلوغ الدين العام مستويات مرتفعة وفق المعايير السابقة. فقد أظهر تحديث لرسم بياني نشره الصندوق في 2020، أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في البلدان ذات الدخل المرتفع سجلت 112% في 2023، منخفضة عن القمة الأخيرة، عندما بلغت 124% في 2020، وتساوت الأخيرة مع قمة سابقة تم تسجيلها في 1946.

 

لكن ما يجعل الأمر أكثر جدارة بالملاحظة، هو أن الذروة السابقة سُجلت بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، في حين سُجلت الأخيرة في فترة سلم. علاوة على ذلك، بلغت النسبة المسجلة في الاقتصادات الناشئة 69% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي مستوى قياسي لهذه البلدان.

 

إذن، هل تلوح أزمة دين عام في الأفق؟ إذا كان ذلك صحيحاً، فهل سنشهد حالات عجز عن السداد، وتضخماً وكبحاً مالياً (محاولات لأن تظل الديون رخيصة عنوة)؟ أم سنشهد مزيجاً من الثلاثة؟ وإذا لم يحدث أي من هذه الأمور، فما الذي يجب علينا فعله؟.

 

ذكّرنا أوليفييه بلانشار كبير خبراء الاقتصاديين السابق لدى صندوق النقد الدولي، والذي يعمل حالياً لدى معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن العاصمة، مؤخراً، بآليات ومخاطر الديون في مدونة له. وفي ما يتعلق بالأولى، فإن العوامل المحددة كالآتي: أولاً العلاقة بين أسعار الفائدة على الدين ومعدل النمو الاقتصادي، وثانياً نسبة العجز المالي الأولي (أي العجز قبل مدفوعات الفائدة) إلى الناتج المحلي الإجمالي.

 

وبالنسبة للأخيرة، فإن الأمر الأكثر أهمية، هو وجوب ألا تنمو الديون على نحو يجعلها قابلة للانفجارِ. وفي حين لا يمكن تعريف نسبة محددة للدين باعتبارها غير مستدامة، سواء على أساس تجريبي أو نظري، فإنه كلما ارتفعت النسبة الأولية وتسارعت وتيرة نموها، كان الدين أقل ترجيحاً لأن يكون مُستداماً. ويرى بلانشار أن «الاقتصادات المتقدمة بمقدورها المحافظة على نسبة أعلى من الدين، طالما أنها ليست قابلة للانفجار». لكن هناك احتمالية تتمثل في ارتفاع الفائدة مع ارتفاع مستويات الدين، وإذا تحقق ذلك، فستميل ديناميكيات الدين إلى أن تكون أكثر استشراءً وقابلية للانفجار.

 

وإذا كان لنسب الدين أن تظل مستقرة، فيتعين تساوي معدل النمو الاقتصادي ومتوسط سعر الفائدة، عندما يكون الميزان الأولي صفراً. وكلما زاد فائض سعر الفائدة عن معدل النمو، كان الفائض المالي الأولي أكبر، والعكس صحيح. لكن إلى أين وصلت الديون والعجز المالي للاقتصادات الكبرى ذات الدخل المرتفع اليوم؟.

 

وتسجل نسب صافي الدين مستويات أعلى كثيراً عمّا كانت عليه في العقدين الماضيين، ويتوقع صندوق النقد الدولي اقتراب نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 100% في المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة، و133% في إيطاليا، و156% باليابان خلال 2024. وعلى النقيض من ذلك، ففي عام 2001، كانت النسب تقل عن 50% بالمملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة، و75% في اليابان، و100% في إيطاليا. وقد وقعت هذه القفزات رغم انخفاض أسعار الفائدة. وبالتالي، ليس من المفاجئ أن نسب العجز الأولي كانت كبيرة.

 

وبالنظر إلى الفترة بين عامي 2008 و2023، بلغت نسب العجز الأولي في المتوسط 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، و5.2% في اليابان، و4.1% في المملكة المتحدة، و2.9% في فرنسا. أما إيطاليا، فلم يتجاوز العجز الأولى فيها 0.2% في المتوسط من الناتج المحلي الإجمالي. لكن ذلك لم يكن كافياً لاحتواء ارتفاع الدين، لأن الفائدة كانت مرتفعة للغاية إبان أزمة منطقة اليورو. وكان هذا بمثابة عقاب على الإسراف الذي شهدته منطقة اليورو في وقت سابق، فيما تمكنت ألمانيا، من جانبها، من التمتع بفائض أولي صغير، بلغ في المتوسط 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي.

 

إذن، ماذا يخبئ المستقبل في جعبته لأسعار الفائدة والنمو الاقتصادي المأمول؟ لقد قفزت الأولى على نحو هائل، فارتفعت العوائد الاسمية للسندات الحكومية لأجل 10 سنوات، بما يتراوح بين 3 نقاط مئوية في كندا، و3.9 نقاط مئوية بالمملكة المتحدة في الأعوام الثلاثة الماضية، أما اليابان فهي الاستثناء، كما هو معروف.

 

اللافت للنظر، هو ارتفاع العوائد الحقيقية في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، اللتين طرحتا سندات مرتبطة بالمؤشرات لمدة طويلة، على نحو يكاد يوازي تصاعد العوائد الاسمية. وارتفعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية المحمية من التضخم 3 نقاط مئوية، مقابل زيادة قدرها 3.6 نقاط مئوية للسندات التقليدية، مع تصاعد قدره 3.4 نقاط مئوية للسندات الحكومية البريطانية المرتبطة بالتضخم، مقابل ارتفاع 3.9 نقاط مئوية للسندات الحكومية التقليدية.

 

ولا يمكن لارتفاع توقعات التضخم على المدى الطويل، أن يشكّل جزءاً كبيراً من السبب وراء قفزة العوائد الاسمية، وبذلك، ربما تكون التفسيرات وراء ذلك، إما تحول صعودي في الفائدة الحقيقية التوازنية، أو السياسة النقدية الأكثر تشدداً. وإذا كانت الأولى هي السبب، فقد تظل الفوائد الحقيقية مرتفعة، أما إذا كانت الأخيرة، فسوف تنخفض مجدداً عند عودة السياسة النقدية إلى طبيعتها. وإجمالاً، قد تظل الفوائد الحقيقية مرتفعة على نحو دائم، وعند مستويات أعلى مما كانت عليه سابقاً، بيد أن هذا ليس أمراً أكيداً بعد.

 

وفي النهاية، ما معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة؟ يرجح صندوق النقد الدولي تسجيل معدل النمو الحقيقي بين 2024 و2028 في المتوسط، نسب 1.9% في الولايات المتحدة، و1.8% في كندا،و1.6% في المملكة المتحدة وفرنسا، و1.4% في ألمانيا، و0.9% في إيطاليا، و0.6% في اليابان. وتقل هذه المعدلات بكل تأكيد عن معدلات الفائدة الحقيقية اليوم.

 

وإذا أرادت الحكومات تفادى مخاطر قفزات الديون، وألا تلجأ في الوقت ذاته للتضخم المفاجئ أو الكبح المالي، فسوف تحتاج لتشديد السياسات المالية، التي ما زالت غالبيتها مفرطة التيسير. لكن هل تجرؤ الحكومات على هذا في مجتمعات تواجه شيخوخة سكانية، واقتصادات تنمو ببطء، واتساعاً للأعباء الدفاعية؟.

 

من شأن النمو السريع، المساعدة في ذلك الأمر، ولكن مثلما أثبتت حكومة ليز تراس، فلا يمكن تحقيق ذلك باستخدام العصا السحرية، لذلك، يبدو أن خيارات مالية مؤلمة تنتظر الحكومات على الطريق.