جيمس ستافريديس
أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية وقائد عسكري سابق لحلف الناتو وعميد كلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس
حتى في ظل الإجراءات المشددة التي تتخذها الصين لاحتواء تفشي فيروس «كورونا» ـ فقد وضعت فعلياً 50 مليون شخص قيد الحجر الصحي ـ بلغ عدد قتلى الفيروس داخل البلاد 130 شخصاً على الأقل، في الوقت الذي بدأ الفيروس يطل برأسه في أرجاء مختلفة من العالم، منها خمس حالات على الأقل داخل الولايات المتحدة. وتعد هذه واحدة من المواقف القليلة التي تتجلى خلالها مزايا للعيش داخل مجتمعات مستبدة اعتاد الناس داخلها طاعة أوامر سلطة أعلى. ولك أن تتخيل رد الفعل لو أن الحكومة الأميركية قررت قطع جميع وسائل النقل داخل ومن شيكاغو، وهي خطوة اتخذتها بكين إزاء حاضرة في حجم مشابه لشيكاغو: ووهان.
ومع هذا، فإن التوقيت السيئ لتفشي الفيروس المتزامن مع السنة الصينية الجديد يعني أن مئات الملايين داخل البلاد في حالة تنقل، بجانب أن انتشار النقل الجوي في كل مكان يعني أنه سيكون من الصعب احتواء الفيروس. والسؤال: هل نواجه اليوم وباءً جديداً على غرار «الإنفلونزا الإسبانية» التي أصابت منذ قرن مضى ثلث سكان العالم وبلغ معدل الوفيات بين المصابين بها 20 في المائة؟ ربما لا، لكن للطبيعة عادة سيئة تتمثل في إلقاء وباء خطير علينا نحن البشر كل بضعة قرون، رغم كل التقدم الطبي الذي بلغناه. وإذا تفشى مثل هذا الوباء أو أي وباء آخر مستقبلي على الساحة العالمية، فإن المؤسسات العسكرية العالمية سيتعين عليها الاضطلاع بدور رائد في جهود احتوائه.
وباعتباري قائد القيادة الأميركية الجنوبية، توليت الإشراف على إجراءات الاستجابة لحالات عدة من تفشي وباء الكوليرا في هاييتي ـ والذي يسهل احتواؤه، مقارنة بفيروس كورونا، لكن تظل الحقيقة أنه أصاب أكثر عن نصف مليون من أبناء هاييتي ولقي قرابة 10 آلاف مصرعهم في أعقاب زلزال 2010. واضطلعت القوات الأميركية وشركاؤها من الدول الحليفة بدور محوري في وقف تفشي المرض. وتمكنت القوات الأميركية ـ التي عملت بالتعاون مع نظراء من البرازيل وتشيلي ـ من معالجة المياه وتوليد الكهرباء وتحقيق مستوى أساسي من النظام والاستقرار بين المدنيين. ولم يكن باستطاعة أي وكالة مدنية تحقيق ذلك بالنظر إلى حجم الأزمة الطارئة.
وبالمثل، قدمت وزارة الدفاع استجابة مبهرة لتفشي وباء إيبولا غرب أفريقيا منذ سنوات قليلة ماضية. واضطلعت المستشفيات الجراحية المتنقلة والنقل الجوي للإمدادات الحيوية (بينها سترات عزل، والتي ستصبح جوهرية إذا ما أصبح «كورونا» أزمة عالمية)، بدور أساسي في مواجهة الوباء. وإذا ما رغبت في الاطلاع على نسخة خيالية مما يمكن أن يكون عليه الدور العسكري في مواجهة تفشي وباء، بإمكانك قراءة رواية «الحرب العالمية الأخيرة» من تأليف ماكس بروكس والتي تتناول فكرة اكتساح فيروس للكوكب، وإجبار المجتمعات المختلفة على خيارات شديدة الصعوبة، فيما يخص الحجر الصحي والفرز الطبي للمرضى ومعسكرات الاحتجاز. وبينما سيشعر العاملون المدنيون بالمجال الطبي ببعض التردد حيال التعامل مع العسكريين، فإنه ببساطة سيتحتم عليهم ذلك من أجل هزيمة تحديات بيولوجية على مستوى عالمي.
من جهتها، تملك الجيوش قدرات هائلة تمكنها من التعامل مع الأوبئة، بجانب أن أفرادها مدربون على العمل في عالم من الأسلحة البيولوجية، ويملكون المعدات الثقيلة وتجهيزات الحماية الشخصية اللازمة للعمل داخل بيئة مصابة. أيضاً، تحظى الجيوش بمؤسسات طبية ضخمة وقدرات بحثية يمكن تطبيقها على العلاجات التكتيكية والبحث عن لقاحات وعقاقير مسكنة. بجانب ذلك، تملك الجيوش القدرات اللوجيستية التي تمكنها من نقل القوة البشرية والمعدات، بل ومستشفيات كاملة عبر أرجاء العالم في غضون أيام أو حتى ساعات. وأخيراً، تتميز غالبية المؤسسات العسكرية ـ خاصة الأميركية ـ بثقافة الخدمة، مما يعني أن أفرادها سيكونون على استعداد للتضحية في مواجهة أخطار شخصية، مما يجعل من الجيوش في مثل هذه المواقف مزيجاً ثرياً من القدرات.
أما النبأ المؤسف هنا فهو أن السيطرة على الأمراض ليست من المجالات التي يتركز عليها اهتمام البنتاغون، والمؤسسات العسكرية الضخمة الأخرى حول العالم. في الوقت الحالي، تركز وزارة الدفاع الأميركية اهتمامها على مواجهة تحديات تكتيكية مثل الإرهاب وعناصر خطيرة مثل إيران وكوريا الشمالية، بجانب تحديات استراتيجية أطول أمداً من روسيا إلى الصين. وبينما تتوفر لدى البنتاغون خطط عمليات طوارئ للتعامل مع تفشي الأوبئة، فإنه لا يجري تدريب الجنود عليها باستمرار، وتعاني حالياً من نقص التمويل على نحو مزمن. حال وقوع أزمة محلية، من المفترض أن جهة الاستجابة ستكون القيادة الأميركية الشمالية، والتي تتفوق على القيادات الجغرافية الأخرى من حيث مستوى الاستعداد، ومع ذلك تبقى في حاجة إلى تدريب أفضل. وكي أكون أميناً، فإنه خلال العقد الذي توليت خلاله قيادة القيادتين الجنوبية والأوروبية، لم نفعل أي شيء للاستعداد لمواجهة تفشي وباء ضخم. والآن، يتعين على البنتاغون النظر إلى تفشي باعتباره جرس إنذار وإجراء مراجعة رفيعة لمدى استعداد القوات الأميركية الاستجابة لهذا النمط من الأخطار.
علاوة على ذلك، بمقدور المؤسسة العسكرية الأميركية تولي تنظيم عمل الكيانات العامة والخاصة المتنوعة داخل الميدان. وبالتأكيد ستضطلع مراكز السيطرة على الأمراض بدور رائد على هذا الصعيد، بجانب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والتي اضطلعت بدور حيوي في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية (إتش آي في) عالمياً. إلا أنهما ستحتاجان إلى العون كي تتمكنا من التنسيق داخل الميدان مع منظمات غير حكومية مثل «الصليب الأحمر» و«أطباء بلا حدود» و«فرق الاستجابة للكوارث» التابعة لمعمل جونز هوبكنز للفيزياء التطبيقية، حيث أعمل كزميل بارز. وسيكون للتعاون بين المؤسسات الخاصة والعامة دور جوهري في الاستجابة للأوبئة، وتبدو المؤسسة العسكرية وسيطاً نموذجياً في هذا الإطار.
وأخيراً، فإنه لا يمكن لدولة بمفردها هزيمة الفيروسات ولكل دولة على وجه الأرض مصلحة أصيلة في هزيمة الوباء. ومن الممكن بسرعة إقرار جهود تخطيط وتدريب وعمليات بين المؤسسات العسكرية بين بعضها بعضاً بالنظر إلى أن هذه المؤسسات ـ حتى المتعادية منها ـ تعي التكتيكات العملية والتكنيكات والإجراءات الخاصة ببعضها بعضاً. اليوم، لا نملك مكافئاً لمنظمة الناتو في مواجهة الأوبئة، لكن حال تفشي فيروس «كورونا» على الصعيد العالمي بصورة خطيرة، فإننا سنحتاج إلى منظمة بهذا الشكل، وهذه جهود سترغب وستحتاج الولايات المتحدة، ودول أخرى شريكة مثل روسيا والصين والهند، بل وحتى ربما كوريا الشمالية، التعاون مع بعضها بعضاً بخصوصها.