2025/12/24
ربع قرن في المدار... كيف يعيش البشر داخل محطة الفضاء ؟

 

 

 

تخيل أنك تستيقظ لتشاهد شروق الشمس 16 مرة يومياً في منزل يسبح وسط فراغ مهيب، حيث لم تفرغ السماء من الوجود البشري ولو لثانية واحدة منذ الثاني من نوفمبر عام 2000.

 

إن محطة الفضاء الدولية (ISS) ليست مجرد مختبر معلق، بل هي المنزل الذي آوى أكثر من 280 رائد فضاء، وأثبتت للعالم أننا حين نضع خلافاتنا الأرضية جانباً، يمكننا بناء المستحيل عبر رحلة تاريخية شكلتها 25 محطة رقمية فوق النجوم.

 

تبدأ الحكاية من إرث "زاريا"، الوحدة التي يبلغ عمرها 27 عاماً منذ انطلاقها عام 1998 وسط شكوك سياسية ومالية كبرى، حيث بدأت كمزيج بين مشروع أمريكي مهجور وخليفة لمحطة "مير" الروسية، لتتحول اليوم إلى أضخم تعاون دولي مهد الطريق لعصر الاستكشاف البشري للفضاء العميق.

 

وقد أضاءت السماء لحظة فارقة حين افتتح طاقم "إكسبيديشن 1" المكون من 3 أعضاء العصر الذهبي للمحطة في نوفمبر 2000، حيث أمضوا خمسة أشهر في ظروف ضيقة وصعبة، ممهدين الطريق لوجود مستمر لسبعة رواد فضاء بشكل دائم حتى يومنا هذا، مما جعل الفضاء بيئة مأهولة لربع قرن كامل.

 

ولم تُبْنَ المحطة دفعة واحدة، بل تطلب الأمر "هندسة الفراغ" عبر 42 رحلة تجميع لنقل وتركيب أجزائها المعقدة، وبفضل أذرع المكوك الروبوتية، التحمت أجزاء صُنعت في أربع قارات مختلفة بدقة مذهلة في قلب المدار، لتشكل أعظم هيكل هندسي يسبح فوق رؤوسنا بسلام وتناغم عالمي فريد.

 

داخل هذا المنزل المداري، يختبر الرواد مساحة معيشية تبلغ 388 متراً مكعباً، وهي مساحة تعادل حجم منزل كبير بسبع غرف نوم، حيث تختفي مفاهيم الأرض والسقف تماماً ويصبح كل سطح متاحاً للعمل.

 

وفي هذه البيئة، يلتزم الجميع بروتين رياضي صارم لمدة 2 ساعة يومياً لمواجهة ضريبة البقاء فوق الأرض، حيث يسرق انعدام الوزن كتلة العظام وقوة العضلات؛ وهنا يبرز التحدي حين ركض الرائد تيم بيك ماراثون لندن كاملاً في المدار خلال ثلاث ساعات ونصف فقط.

 

ولضمان البقاء، تعمل تكنولوجيا "إكسير الحياة" لتدوير المياه بنسبة استعادة تصل إلى 98%، حيث يقوم النظام بمعالجة الرطوبة وبخار التنفس والعرق وتحويلها إلى مياه شرب نقية تماماً وفق أعلى معايير الجودة الصحية العالمية.

 

وتتحول المحطة إلى "مختبر للنجوم" أنتج 4400 ورقة بحثية، من دراسة الخلايا السرطانية إلى تطوير مواد خارقة وتصنيع أعضاء بشرية في بيئة الجاذبية الصغرى.

 

وفي هذا المختبر، ثبت أن السن ليس عائقاً، فقد عاد "دون بيتيت" للأرض مؤخراً بعمر 70 عاماً، كما حلق الأسطورة جون جلين وهو في السابعة والسبعين، فاتحين الباب لكل من يملك الشغف.

 

وبينما يواجه الرواد تحدي الزمن، سجل فرانك روبيو عام 2023 رقماً قياسياً بـ 371 يوماً في المدار، في مهمة تهدف لفهم صمود العقل البشري خلال الرحلات المستقبلية للمريخ حيث العزلة والوقت هما أكبر التحديات.

 

ومن خلال نافذة "القبة" الشهيرة، لا يفصل الرواد عن الفراغ القاتل سوى 25 ملم من الزجاج، مما يمنحهم أجمل إطلالة كونية تضطرهم لضبط منبهاتهم للعودة لمهامهم.

 

وفي زوايا المحطة، يظهر الابتكار الموسيقي حيث صنع دون بيتيت آلة "الديدجيريدو" من خرطوم مكنسة المحطة، بينما ينام الرواد داخل كبائن صغيرة في أكياس نوم بطول 211 سم مربوطة للجدران لتجنب الاصطدام وسط ضوضاء المراوح المستمرة.

 

ولا تكتمل الحياة بدون مهارة "سباكة الفضاء"، حيث يفتخر كريس هادفيل بإصلاح المراحيض الأربعة المعطلة في بيئة بلا مياه جارية، تماماً كما غمرت رائحة "مخبوات الكعك " المحطة عام 2019 حين خُبزت 5 قطع طازجة لأغراض مخبرية دون أن يسمح للرواد بتذوقها.

 

لحماية هذا الصرح، يسبح في المدار درع يواجه 28 ألف قطعة حطام، مما استدعى القيام بـ 40 مناورة تجنب لتفادي التصادمات الكارثية، في حين تظل عمليات السير في الفضاء هي الأكثر خطورة، حيث استغرقت أطول عملية 9 ساعات، وشهدت حادثة مرعبة عام 2013 كاد فيها رائد أن يغرق داخل خوذته.

 

وتعتمد المحطة على "طرفها الذكي" Canadarm2 ذو المفاصل السبعة والروبوت "ديكستر" ذو الخمس عيون للصيانة والتركيب.

 

ومع ظهور "سياحة النجوم"، زار المحطة 13 سائحاً حتى الآن برسوم تصل لـ 35 ألف دولار لليلة الواحدة، في ظل "اقتصاد الفضاء الجديد" الذي خفض تكلفة المقعد في مركبة "دراجون" إلى 55 مليون دولار مقارنة بمليارات المكوك القديم.

 

وعلى الرغم من الصعوبات، كما حدث مع رواد مهمة "ستارلاينر" الذين ظلوا عالقين في المدار لمدة 286 يوماً حتى مارس 2025 بسبب أعطال تقنية، تظل المحطة تعمل بأجنحة شمسية عملاقة تولد 735 ألف كيلوواط/ساعة من الطاقة النظيفة.

 

وتُدار هذه المنظومة بـ "عقل رقمي" تطور من ذاكرة 74 كيلوبايت في عصر أبوللو إلى حواسيب "أسترو-باي" الحديثة، مع نظام جرد دقيق يتتبع 486 ألف قطعة عبر "الباركود" لمنع ضياعها في انعدام الجاذبية.

 

وفي النهاية، ومع اقتراب موعد التقاعد في 2030، يظل استثمار 150 مليار دولار في أغلى صرح صنعه الإنسان شاهداً على أن الإجابة عن طموحاتنا تكمن في النجوم التي نسعى للوصول إليها مستقبلاً.

تم طباعة هذه الخبر من موقع الشبكة العربية للأنباء https://arabnn.news - رابط الخبر: https://arabnn.news/news79442.html