2025/04/11
الدولار الأمريكي.. هل ينجو من الرئيس الأمريكي؟

 

 

هيمن الدولار الأمريكي على النظام المالي العالمي لأكثر من سبعين عاما، واحتفظ بمكانته دون تهديد حقيقي رغم التغيّرات الكبرى في الاقتصاد والسياسة. فالأنظمة الاقتصادية تميل إلى الجمود، وتُفضّل الحكومات والمؤسسات والشركات الكبرى التعامل بآليات مأمونة ومجرّبة. وبينما تتكرر الأنباء حول محاولات دولية للبحث عن بدائل أو إنشاء عملات منافسة، يبقى الدولار في موقع الصدارة.

 

لكن هذا الاستقرار بات مهددًا اليوم. ففي 2 أبريل، أعلن الرئيس دونالد ترامب فرض رسوم جمركية باهظة على معظم شركاء الولايات المتحدة التجاريين، ما أدى إلى انهيارات في الأسواق العالمية، في خطوة تعكس نهجه القائم على تسليح النفوذ الاقتصادي الأمريكي. وباتت تلك السياسات تمثّل أكبر تهديد حقيقي لمكانة الدولار كعملة احتياطية.

 

وفق مقال مطول شارك فيه ثلاثة من الأكاديميين في الاقتصاد السياسي ونشرته مجلة فورين أفيرز، فإن تراجع دور الدولار لن يضر أمريكا وحدها، بل سيلحق أذى كبيرًا بالنظام المالي العالمي. فغيابه عن مركز التبادلات والتدفقات المالية يعني تباطؤ النمو، وزيادة الفقر، وارتفاع أسعار الواردات، دون أن يتحقق أي انتعاش صناعي حقيقي. بل قد تكون النتيجة النهائية زوال النفوذ الاقتصادي الذي تسعى هذه السياسات إلى تعزيزه.

 

لم تكن سيطرة الدولار مصادفة. منذ مؤتمر بريتون وودز في نهاية الحرب العالمية الثانية، ارتبطت معظم العملات بالدولار، الذي كان قابلًا للتحويل إلى الذهب. ومع إنشاء مؤسسات كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، غدا الدولار ركيزة للاستقرار النقدي العالمي. وحتى بعد أن فك الرئيس نيكسون هذا الارتباط عام 1971، احتفظ الدولار بمكانته، بفضل خصائص جوهرية يتمتع بها: السيولة، والانتشار الواسع، والقدرة على العمل كوحدة حساب مشتركة.

 

فمعظم السلع المتداولة عالميًا، من النفط إلى المعادن والمحاصيل، تُسعّر بالدولار. ويُستخدم الدولار في نحو 54% من فواتير التجارة العالمية، رغم أن الولايات المتحدة لا تمثل سوى 10% منها. كما يُهيمن الدولار على حوالي 90% من تداولات الصرف الأجنبي، ويشكل نصف التعاملات على نظام «سويفت» المصرفي الدولي.

 

لكن السيولة والانتشار لا تكفيان وحدهما. يجب أن تكون عملة الاحتياطي العالمي أيضا مرجعاً موثوقًا للقيمة، وهو ما توفره البيئة الاقتصادية الأمريكية: أسواق مالية واسعة ومنفتحة، أقل قدر من القيود على حركة رأس المال، ومؤسسات قوية تتمتع بالشفافية والثقة. سوق الأسهم الأمريكية، رغم تراجعه في 2024، لا يزال الأكبر عالميًا بقيمة 63 تريليون دولار، وسوق سندات الخزانة الأمريكية يُعد الأكثر سيولة بقيمة 28 تريليون دولار، وبمعاملات يومية تتجاوز 900 مليار دولار. هذه المزايا تُعزز من الثقة في الدولار، وتجعله الخيار الطبيعي للاحتياطي النقدي في العالم.

 

وتتمثل إحدى أبرز نقاط قوة الدولار في غياب المنافس الحقيقي. فالصين، رغم نموها الاقتصادي، لا تزال تفتقر إلى الأسواق المالية المنفتحة، وفق تعبير الأكاديميين في "فورين أفيرز". ورغم محاولات بكين الترويج لنظام «CIPS» كبديل لنظام سويفت، لم يستحوذ إلا على 0.2% فقط من حجم معاملات سويفت، ما يكشف ضعف تأثيره الفعلي.

 

أما اليورو، فرغم كونه العملة الثانية عالميا من حيث التداول والاحتياطي، إلا أنه يعاني من غياب اتحاد مالي موحد في منطقة اليورو، وتردّد دول مثل ألمانيا في إصدار ديون حكومية كبيرة. ومع تصاعد التهديدات الجيوسياسية من روسيا، أصبح اليورو خيارًا أقل جاذبية للبنوك المركزية.

 

كل هذه العوامل تفسّر لماذا لا يزال الدولار، رغم كل الأزمات، العملة الاحتياطية الأولى عالميًا — ليس فقط لأنه قوي، بل لأنه لا بديل حقيقي له حتى الآن.

 

رغم المحاولات المتكررة لطرح بدائل للدولار كعملة احتياطية عالمية، لم تُفلح أي من هذه الجهود حتى الآن في زعزعة مكانته. فقد طرحت مجموعة «البريكس» — التي تضم عددًا من الاقتصادات الصاعدة الكبرى — فكرة إطلاق عملة جديدة تستند إلى سلة عملات من الدول الأعضاء، في محاولة لمنافسة الدولار. غير أن هذا الطموح يصطدم بعقبات جوهرية؛ إذ لا توجد حتى اللحظة خطة واضحة لاتحاد نقدي أو مالي بين أعضاء المجموعة، الذين تختلف أولوياتهم الاقتصادية والسياسية بشكل حاد. وقياسًا على التجربة الأوروبية، فإن مجموعة تُعد أكثر تجزئة من منطقة اليورو تبدو بعيدة كل البعد عن تأمين الثقة اللازمة في الأسواق العالمية لتبنّي عملة مشتركة.

 

أما البدائل اللامركزية أو التقليدية، مثل العملات المشفّرة والذهب، فهي تفتقر أيضًا إلى المقومات الضرورية. فالبيتكوين وسواها من العملات الرقمية لا توفر السيولة الكافية، وتعاني من تقلبات سعرية حادة، وتفتقر إلى أي دعم حكومي أو مصدر ملموس للقيمة. وبالرغم من أن الذهب ظلّ لقرون طويلة أساسًا للنظام النقدي العالمي، فإن عيوبه باتت واضحة في العصر الحديث. فكونه خارج سيطرة الحكومات يجعله غير ملائم للاستجابة للأزمات الاقتصادية، ويُقيد قدرة الدول على ضبط العرض النقدي وتوجيه السياسات المالية.

 

ورغم أن الدولار لا يزال، من حيث البنية والواقع، خيارًا لا غنى عنه، إلا أن عودة دونالد ترامب إلى سدة الحكم شكّلت لأول مرة منذ أجيال تهديدًا ملموسًا لمكانته. صحيح أن البدائل غير جاهزة بعد، ما يُقلل من احتمالية حدوث انهيار فوري، إلا أن خطر التراجع التدريجي بات أكثر واقعية من أي وقت مضى. فالتوترات التي تسببها سياسات ترامب قد تُضعف تدريجيًا الأسس التي قامت عليها هيمنة الدولار.

 

 

في بدايات ولايته، أدت سياساته إلى ارتفاع قيمة الدولار، مدعومًا بزيادة أسعار الفائدة نتيجة الإجراءات التضخمية مثل الرسوم الجمركية والتخفيضات الضريبية. لكن مع الوقت، بدأت الآثار الجانبية لهذه السياسات في الظهور؛ إذ قادت إلى حالة من اللايقين الاقتصادي، واضطرابات في سلاسل التوريد، ونقص في اليد العاملة نتيجة عمليات الترحيل، ما أضعف ثقة الأسواق والمستهلكين على حد سواء. وكنتيجة لذلك، تراجع الإنفاق، وتباطأ النمو، وانخفضت أسعار الفائدة.

 

اللافت أن هذا التدهور فتح المجال أمام أداء أقوى للأسواق الأوروبية. فقد سجلت الأسهم الأوروبية تفوقًا على نظيرتها الأمريكية بنسبة 20% خلال الربع الأول من عام 2025 — وهو أكبر هامش لصالح أوروبا منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وكل ذلك بفعل الارتباك السياسي والاقتصادي الذي تسببت به سياسات ترامب.

 

عند النظر إلى المدى البعيد، تتضح أكثر فأكثر خطورة سياسات ترامب على مكانة الدولار. فالرسوم الجمركية الواسعة التي فرضها، إلى جانب حالة عدم الاستقرار التي يُحدثها في الاقتصاد الأمريكي، من شأنها أن تُلحق ضررًا طويل الأمد بمصداقية الولايات المتحدة كشريك تجاري موثوق. هذا التراجع في الثقة يُقوّض بدوره الطلب على الدولار، ويُضعف مكانته كعملة مفضلة للتجارة والاحتياطات.

 

المفارقة أن حلفاء أمريكا—not خصومها—هم من سيتلقون الضربة الأقسى. إذ ستُفرض تعريفات أعلى على دول مثل إسرائيل واليابان والاتحاد الأوروبي مقارنة بدول خصمة كإيران وروسيا. وقد بيّنت الدراسات الاقتصادية أن الدول تميل للاحتفاظ باحتياطيات نقدية من عملات شركائها الجيوسياسيين. وبإبعاد أقرب الحلفاء، تُبعد واشنطن الدول التي كانت الأكثر اعتمادًا على النظام التجاري المُسهّل عبر الدولار. كذلك، يُفاقم تشكيك ترامب في التزامات الولايات المتحدة الدفاعية، كالتزام الناتو بالمادة 5، وانقلابه على أوكرانيا، من هذه المخاوف، ما يدفع الدول للسعي إلى تقليل اعتمادها على قرارات أحادية قد تُغيّر المشهد في لحظة.

 

صحيح أن هذه الدول لن تتخلى عن الدولار بين عشية وضحاها، ولكن مع تعاظم شراكاتها التجارية مع الصين وغيرها من القوى الصاعدة، سيزداد الإغراء لاستخدام عملات وأنظمة دفع بديلة في بعض المعاملات. ولعلّ نظام CIPS الصيني يُمثّل أحد هذه الخيارات. فالصين اليوم هي الشريك التجاري الأكبر لثلثي دول العالم، وإذا ما أصبحت المعاملات مع الشركات الصينية مرتبطة حصرًا بـCIPS، فستندفع البنوك والمؤسسات المالية إلى تبني هذا النظام للحفاظ على تدفق التجارة. بدلًا من إعادة تصميم أنماط تجارتها لتُرضي التفضيلات الأمريكية، قد تُعيد الدول صياغة بنيتها التحتية المالية بالكامل.

 

العقوبات الأمريكية تُضيف سببًا إضافيًا للتغيير. فمع تشديد واشنطن لإجراءاتها ضد إيران وفنزويلا، وازدياد الاعتماد على العقوبات كأداة ضغط، ستجد الدول المتضررة نفسها مُضطرة إلى السير على خطى روسيا بعد 2018، حين بدأت بتقليص اعتمادها على الدولار في التجارة الدولية واحتياطاتها النقدية. حتى لو لم يُستبدل الدولار بعملة واحدة مهيمنة، فإن تنويع آليات الدفع وتوسيع الخيارات خارج النظام الأمريكي سيصبح سلوكًا منطقيًا وضروريًا.

 

لكن الأخطر من كل ذلك أن التهديد الحقيقي لا يكمن فقط في الرسوم والعقوبات، بل في زعزعة سيادة القانون داخل الولايات المتحدة نفسها. إن تآكل الثقة في القضاء الأمريكي، وتحوّل الحكم إلى نمط شخصي يتسم بالصفقات السياسية وملاحقة الخصوم، يُضعف الميزة الأكبر التي جعلت من الدولار ملاذًا آمنًا: الشفافية، والعدالة، والثقة بالمؤسسات. فحتى الآن، ما زالت الشركات العالمية تُفضل المثول أمام القضاء الأمريكي لا الصيني، لكن إن تبددت هذه الثقة، فقد ينهار الأساس الذي تستند إليه الهيمنة المالية الأمريكية.

 

يمثل الارتفاع الكبير في الدين الحكومي الأمريكي تهديدًا إضافيًا لمكانة الدولار، إذ يُتوقع أن يرتفع الدين من 100% إلى نحو 150% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050، وفقًا لتقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس. وإذا مضى الكونغرس في خفض الضرائب دون ضبط الإنفاق، فإن حصة متزايدة من الإيرادات الحكومية ستُستنزف لتسديد فوائد هذا الدين، على حساب الإنفاق على البنية التحتية والنمو طويل الأجل. الأخطر أن بعض المحيطين بإدارة ترامب اقترحوا ما يُسمى بـ«اتفاقية مار-أ-لاغو»، والتي تتضمن مقايضة سندات الخزانة التي يحملها الأجانب بسندات لأجل مئة عام بفائدة صفرية. مثل هذه الخطوة قد تُلحق ضربة قاتلة بمصداقية الولايات المتحدة كمُقترض، وتدفع وكالات التصنيف الائتماني إلى اعتبارها شكلاً من أشكال التخلف عن السداد، ما يُخيف المستثمرين ويدفعهم إلى الابتعاد عن السوق الأمريكية.

 

وإذا ما تدهور الاقتصاد، كما تتوقعه بنوك وول ستريت، فإن المواجهة بين ترامب والاحتياطي الفيدرالي قد تتجدد. فبينما يُبدي الفيدرالي تحفظًا بشأن تخفيض أسعار الفائدة في ظل الغموض الذي تسببه رسوم ترامب الجمركية، يُصرّ ترامب على سياسة نقدية مرنة لتحفيز النمو. وإذا خضع الفيدرالي لهذا الضغط، فستُمس استقلاليته ومصداقيته، مما يُضعف الثقة العالمية في إدارة السياسة النقدية الأمريكية. ويكمن الخطر في تسييس مؤسسة تشكّل العمود الفقري للنظام المالي العالمي. إذا شعرت البنوك المركزية — من كندا إلى اليابان إلى أوروبا — بأن الاحتياطي الفيدرالي بات أداة في يد الرئيس، فستخشى أن تُمنع في أوقات الأزمات من الوصول إلى التمويل الدولاري عبر خطوط المبادلة، ما يُقلل من قدرتها على التكيّف مع الأزمات.

 

حتى لو لم تُسقط هذه التهديدات الدولار من عليائه فورًا، فإن أي تراجع في مكانته سيحمل تبعات خطيرة. تستفيد الولايات المتحدة حاليًا من انخفاض تكلفة اقتراضها، ومن قدرة واسعة على استخدام العقوبات كأداة ضغط بفضل مكانة الدولار. وتستفيد بقية دول العالم من التعامل بعملة واحدة موثوقة وسهلة التحويل، ما يُبسط التبادل التجاري ويُعزز النمو. لكن إذا تراجعت مكانة الدولار، فسترتفع التكاليف، وتتعقّد التجارة، وتنخفض مستويات المعيشة عالميًا — إلى أن تظهر عملة بديلة تُملأ هذا الفراغ.

 

تاريخيًا، لم يكن الدولار دائمًا في القمة. في القرن التاسع عشر، كان الجنيه الإسترليني هو العملة العالمية الأولى، بفضل الأسواق الرأسمالية البريطانية العميقة والإمبراطورية الواسعة. لكن بعد حربين عالميتين وتراجع اقتصادي طويل، فقدت بريطانيا هذه المكانة لصالح الولايات المتحدة. لم يكن ذلك حتميًا، كما لا يُعد تراجع الدولار اليوم حتميًا. بل إن الخيارات السياسية — لا الأقدار — هي من تُسقط أو ترفع العملات الاحتياطية. وإذا ما فقد الدولار موقعه، فستكون النكسة من صُنع قرارات اتخذتها إدارة ترامب نفسها، لا من تطورات خارجة عن السيطرة.

تم طباعة هذه الخبر من موقع الشبكة العربية للأنباء https://arabnn.news - رابط الخبر: https://arabnn.news/news70735.html