معظمنا يجد صعوبة في تقبل فكرة ركوب سيارة ذاتية القيادة، ويتساءل: ماذا لو سارت الأمور بشكل غير متوقع؟ السائق الماهر يعتمد على ردة فعله في الظروف غير المتوقعة، وهو في الغالب يجتاز العقبة بأقل الخسائر، ورغم معرفتنا بأن حوادث الطرقات تودي بحياة مئات الآلاف من البشر سنويا. ليس من السهل أن نقبل بأن تتحكم في مصائرنا الآلة.
إذا كان الأمر هكذا مع وسائل النقل، فما هو الحال لو قالوا لك إن الجراح الذي سيجري لك عملية جراحية هو روبوت؟ هل ستثق به للقيام بالمهمة؟
التطورات السريعة في قطاع التكنولوجيا جعلت من الذكاء الاصطناعي جزءا لا غنى عنه في القطاع الصحي، وتحديدا في العمليات الجراحية الدقيقة التي تسهل مهمة الطبيب، وتعجل أيضا في شفاء المريض.
رغم ذلك، تحدث مع الناس من حولك عن الذكاء الاصطناعي وعن الروبوتات، فأول ما يتبادر إلى أذهانهم، أفلام الخيال العلمي، إلا أن الأمر لم يعد مجرّد خيال؛ تطبيقات الذكاء الاصطناعي موجودة من حولنا وهي جزء من واقعنا اليومي، ولاسيما في قطاع الرعاية الصحية، وتحديدا في الجراحة، ولو أنها لا تزال في بداياتها.
روبوت لزراعة الأسنان
يتوقع الخبراء أن تطور الذكاء الاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية سيؤدي مستقبلا إلى توفير ملحوظ، قدر بـ150 مليار دولار سنويا في القطاع الصحي بدءا من عام 2026، وسيكون ارتفاع مساهمة الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي 40 في المئة سنويا.
في الولايات المتحدة، أجرت الدكتورة ليزلي فيش، العملية رقم 200 لزراعة الأسنان في 7 يوليو الجاري، مستخدمة في ذلك نظاما روبوتيا يعرف باسم “يومي”. مسجلة اسمها كواحدة من أكثر أطباء الأسنان خبرة في استخدام الروبوت الجراح على مستوى العالم.
في الواقع، استخدام الكمبيوتر في الجراحة أقدم مما نظن؛ بدءا من عام 2000 تم استخدام أكثر من 6 ملايين روبوت للمساعدة على إجراء عمليات جراحية دقيقة في مختلف الاختصاصات الطبية، ومن ضمنها أمراض القلب والأوعية الدموية. إلا أن استخدام الروبوت في جراحة الأسنان، يعتبر حديث العهد.
وكانت الدكتورة ليزلي من بين ثلاثين طبيبا تدربوا على استخدام النظام الروبوتي “يومي”، وسرعان ما أصبحت أكثر طبيب أسنان خبرة في هذا الصعيد. ومعروف أن عمليات زراعة الأسنان تحتاج إلى تحضيرات مسبقة وإلى الكثير من التخطيط والدقة، وهنا يأتي دور الروبوت لمساعدة جراحي الأسنان في القيام بتلك المهمة.
الدول العربية لم تقف بعيدا عن هذه التطورات، وكالعادة جاءت الأسبقية والمبادرة من دولة الإمارات، حيث أكد شريف بشارة، الرئيس التنفيذي لمجموعة محمد وعبيد الملا أن “المستشفى الأميركي يخصص 15 في المئة من ميزانية 2020 و2021 للتميز والابتكار والذكاء الاصطناعي”.
ومؤخرا نقلت فضائية العربية للمشاهدين تفاصيل عملية جراحية، أجريت في دبي، خطوة بخطوة. وقال الدكتور حاتم موسى، رئيس قسم الجراحة في المستشفى الأميركي، “إن الروبوت دافنشي، يسمح للجراح بالتحكم في العملية بدقة أكبر وعن بعد”. وإن أبرز التحديات التي واجهتهم “تشمل تواجد الكوادر الطبية القادرة على استخدام الروبوتات في الجراحة”.
توفر التكنولوجيا، كما يؤكد حاتم موسى، ما لا يكفي من الضروري في تواجد الكوادر الطبية القادرة على التعامل معها، وهي أحد التحديات التي تواجه تطبيق الذكاء الاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية.
وأضاف شريف بشارة أن “أبرز المعوقات هي التشريعات، فالذكاء الاصطناعي قد يتطلب مشاركة بيانات المرضى ويحتاج تشريعات تنظم ذلك”.
ويرى الخبراء أن تكلفة الجراحة الروبوتية قد تكون في حد ذاتها أعلى من التقليدية، إلا أن التوفير يظهر في مجالات أخرى، من بينها تقليل عدد الأيام التي يقضيها المريض في المستشفى، وتخفيف آلام ما بعد الجراحة، بالإضافة إلى تزويد الجراح بدقة أكبر خلال العملية.
وأضاف د.حاتم موسى “وضوح الرؤية للمكان المستهدف علاجه، وسهولة حركة الروبوت، تسهل كثيرا من الإجراءات المعقدة التي تواجه الجراح أثناء العملية، وتنعكس آثارها على المريض أثناء وبعد العملية. الجراحات الروبوتية تسرّع تعافي المريض بعد الجراحة”.
وينفي الخبراء أن يكون لتطور الذكاء لاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية، أثر سلبي على الوظائف خلال العقد المقبل على الأقل، لأنه سيستبدل بعض الوظائف، أي إنه سيخلق حاجة لسلسلة جديدة منها.
روبوتات تشعر وترى
في تقرير لها، طرحت الـ”بي.بي.سي”، على مشاهديها سؤالا هاما، ما هو شعورك إن كان الطبيب الذي سيجري لك عملية جراحية، وتتوقف عليه حياتك، روبوتا؟
يقول التقرير إن عام 2019 شهد نموا كبيرا في تكنولوجيا الروبوتات، وإن هناك الكثير المتوقع قريبا، وإن الدلائل كلها تشير إلى أن الجراحات التي تجريها الروبوتات أقل تطلبا وتحسن من وقت الشفاء. هذه الدلائل مرحب بها في ظل النمو المستمر للخدمات الصحية. ويقول معد التقرير، إنه راقب إجراء عملية جراحية تقوم بها ثلاث أذرع روبوتية، في العادة كانت تجرى على أيدي جراحين يوصفون بالمهرة.
وتصرفت الروبوتات مثل كائنات بشرية؛ ترى وتشعر وتناور بدقة مذهلة. وكانت العملية التي تجرى على المريض هي استئصال الغدة الصعترية من بين رئتيه.
وتحدث معد التقرير مع المريض قبل إدخاله إلى مسرح العمليات بعشرين دقيقة، وسأله إن كان يقبل أن يضع ثقته في الجراح الروبوت المساعد.
واعتبر المريض أن الأمر مثير للاهتمام، وأن الأطباء أكدوا له أن عملية التعافي ستتم بسرعة أكبر. وأن إجراء العملية باستخدام المبضع والشق ستحتاج إلى فترة أسابيع يبقى خلالها في المستشفى حتى يتعافى بشكل كامل.
“الروبوت يسرع في الشفاء، والأهم لا حاجة إلى فتح جرح كبير في الجسم”. بهذه الكلمات انتهى الحديث، وأدخل المريض إلى مسرح العمليات، ليوضع تحت تأثير البنج، ويتكفل الروبوت الجراح “دافنشي”، الذي تبلغ كلفته 2 مليون جنيه إسترليني بالبقية. ولا يلغي هذا بالطبع الدور الذي يقوم به الأطباء البشر في المتابعة والمراقبة.
ويتميز نظام دافنشي بقدرته على القيام بالعديد من العمليات الجراحية المنظارية الحاصلة على الموافقات التنظيمية، أكثر بكثير من أي من منافسيها الحاليين في السوق.
وتعد شركة “أنتويتف سيرجيكال” التي ابتكرت الروبوت دافنشي، والذي كان من أوائل الأنظمة الجراحية الروبوتية التي حصلت على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية، رائدة في هذا المجال، وهي مدرجة في بورصة ناسداك وتتجاوز قيمتها السوقية 68 مليار دولار.
وتعتمد العديد من المستشفيات في استخدام أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي على عدد من الشركات الرائدة في مجال الروبوتات الجراحية. أبرز هذه الشركات “ميدترونيك”، وكانت قد استحوذت على شركة “ماذور” التي تركز على الجراحات الروبوتيه للعمود الفقري والدماغ، ودفعت لإنهاء عملية الاستحواذ مبلغ 1.6 مليار دولار عام 2018، واليوم تبلغ القيمة السوقية لشركة “ميدترونيك” 125 مليار دولار.
ومن الشركات البارزة “جونسون أند جونسون” المعروفة في المجال الصحي، التي لم تتردد طويلا في الدخول إلى مجال الذكاء الاصطناعي، واستحوذت في فبراير 2019 على شركة ناشئة متخصصة بمجال الروبوتات للتنظير الداخلي، وأبرزها الروبوت “مونارش” مقابل 3.4 مليار دولار. وفي ديسمبر 2019 استحوذت على الحصة التي لا تملكها في “فيرب سورجيكال” الرائدة في مجال الروبوتات وعلوم البيانات.
وشركة جونسون أند جونسون مدرجة في بورصة نيويورك وتتجاوز قيمتها السوقية 371 مليار دولار.
نسوق هذه الأرقام للتركيز على أهمية الروبوتات، التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، في القطاع الصحي، بعد أن ثبتت أهميتها في قطاعات مختلفة.
يعتقد الجراحون بوضوح أن الروبوتات ستكون جزءا كبيرا من مستقبل مهنتهم. ولكن، مع وجود خيار متنامٍ من التكنولوجيا المتاحة، سيعني ذلك اتخاذ قرارات دقيقة ومبنية على الأدلة حول ما يوفر أفضل قيمة للاستثمار في قطاع الخدمات الصحية على المدى الطويل