شكّل الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة منعطفاً حاداً في مسار مفاوضات السلام، إذ أدّت إلى تفجير غضب واسع في العواصم العربية، وأحرجت البيت الأبيض الذي كان يرعى الاتصالات غير المباشرة بين الأطراف. فحين استهدفت الطائرات الإسرائيلية في 9 سبتمبر اجتماعاً يضمّ مفاوضين من «حماس» في قطر، بدت العملية وكأنها قصفٌ لمائدة التفاوض نفسها. كانت النتيجة عكس ما أرادته تل أبيب: فقد دفعت تلك الضربة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الضغط على بنيامين نتانياهو لقبول إطارٍ لإنهاء الحرب، بعد أن كانت واشنطن تمنحه هامشاً واسعاً لمواصلة العمليات في غزة. وقد يؤدي هذا الخطأ الذي ارتكبه نتانياهو إلى أن يفقد السيطرة على ما يتباهى به منذ 7 أكتوبر، وهو أن إسرائيل تخلق شرق أوسط جديداً وفقاً لمعايير إسرائيل، والأرجح أن يظهر شرق أوسط جديد فعلاً لكن وفق نسخة جديدة أكثر مراعاة لمصالح العرب.
وبينما جمّدت الدوحة وساطتها احتجاجاً، أدّى الغضب الأميركي والعربي إلى توحيد الموقف الدبلوماسي خلف خطة ترامب الجديدة، وإجبار نتانياهو على تقديم اعتذارٍ رسمي لقطر قبل الإعلان عن الاتفاق في البيت الأبيض. وهكذا، تحوّل الهجوم الفاشل إلى نقطة انعطاف جعلت نتانياهو محاصَراً بين ضغوط واشنطن، وغضب العرب، وتبدّل المزاج الدولي الذي بدأ يرى في استمرار الحرب عبئاً لا يمكن تبريره.
مقابلات مع 14 مسؤولاً
ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" اليوم القصة الكاملة لتأثير الاعتداء على قطر على مسار المفاوضات وعلى أوراق نتانياهو في حرب غزة. واعتمدت الصحيفة على مقابلات مع 14 مسؤولاً من الولايات المتحدة وإسرائيل وعدة حكومات عربية مشاركة في المفاوضات، جميعهم طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم لمناقشة محادثات خاصة ودبلوماسية حسّاسة.
أعظم الأيام في تاريخ الحضارة!
كان هجوم 9 سبتمبر استفزازاً من إسرائيل: التفاوض عبر قصف المفاوضين. وحتى أكثر من بقية الأفعال العدوانية التي قام بها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو في الشرق الأوسط خلال العام الماضي، فقد أثار هذا الهجوم غضب المسؤولين الحكوميين في المنطقة وواشنطن على حد سواء، وهدّد بتقويض فرص التوصل إلى وقف إطلاق النار.
لكن بعد 20 يوماً، وقف نتانياهو وترامب معاً في البيت الأبيض، معلنين دعمهما لخطة قد تنهي حرباً بدأت منذ ما يقرب من عامين. وبمبالغته المعهودة، وصف ترامب اليوم بأنه «كبير جداً، يوم جميل، وربما أحد أعظم الأيام في تاريخ الحضارة». أما نتانياهو، فكان أكثر حذراً، قائلاً إن المقترح «يحقق أهدافنا الحربية».
فشل الهجوم الإسرائيلي في تحقيق أهدافه بالدوحة. لكنه دفع ترامب الغاضب ومستشاريه إلى الضغط على نتانياهو لدعم إطارٍ لإنهاء الحرب، بعد شهور بدا خلالها أن الرئيس منح الزعيم الإسرائيلي ضوءاً أخضر لمواصلة ضرب حماس، حتى مع ارتفاع أعداد القتلى ومعاناة المدنيين الفلسطينيين إلى مستويات جعلت إسرائيل معزولة على نحو متزايد.
وحصلت الخطة على دفعة إضافية مساء الجمعة عندما قالت حماس إنها وافقت على إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة، وكذلك تسليم جثامين من توفّوا، استجابةً لمقترح السلام الذي طرحه ترامب.
لكن السؤال هو ما إذا كان ردّ حماس، في نهاية المطاف، سيرضي إسرائيل والبيت الأبيض. فالبيان، على سبيل المثال، لم يتطرق إلى عناصر أساسية في المقترح الأميركي تطالب الحركة بالتخلّي عن أسلحتها، وهو مطلب رئيسي لإسرائيل.
حتى لو تقدمت الخطة إلى الأمام، فستبقى تحديات تنفيذها كبيرة. لكن هناك شيء من التفاؤل - وفق نيويورك تايمز - بأن ما حدث خلال الأيام العشرين التي تلت الضربة الإسرائيلية لقطر — دبلوماسية سرّية عالية المخاطر بين دول فقدت منذ زمن الثقة في نوايا بعضها البعض لكنها اتفقت في النهاية على مسار لإنهاء الحرب — قد يترك أثراً دائماً بعد عامين من الدمار.
أنجح عمل دبلوماسي لإدارة ترامب
كانت عملية الدوحة قد أعادت جاريد كوشنر، صهر ترامب، إلى دوره القديم كمفاوض في الشرق الأوسط. وأجبرت نتانياهو على تقديم اعتذار مُهين. وخلّفت لدى حماس ما قد يكون فرصة أخيرة لتجنّب هجوم إسرائيلي مفتوح الأمد.
قال نِد لازاروس، الأستاذ في «مدرسة إليوت للشؤون الدولية» بجامعة جورج واشنطن: «سواء أثبت اتفاق السلام فعاليته أم لا، فإن فعل توحيد الدول العربية والإسلامية حول خطة تدعمها أيضاً إسرائيل كان ربما أنجح عمل دبلوماسي لإدارة ترامب».
في اليوم السابق للاعتداء الإسرائيلي على الدوحة، عقد ستيف ويتكوف، مبعوث الإدارة إلى الشرق الأوسط، وكوشنر اجتماعاً في قصر ويتكوف في ميامي مع رون دِرمِر، أحد أقرب مستشاري نتانياهو. وخلال ثلاث ساعات، عمل الثلاثة على صيغ متنافسة لوقف إطلاق النار كانوا يأملون تقديمها للقطريين لاحقاً ذلك الأسبوع، ثم إلى حماس في نهاية المطاف. لم يعطِ دِرمِر أي إشارة للآخرين بأن إسرائيل على وشك تنفيذ ضربة مفاجئة في الدوحة.
كان كوشنر مبعوث الشرق الأوسط خلال ولاية ترامب الأولى، ومنذ ذلك الحين نسج علاقات تجارية وثيقة مع دول المنطقة. وفي الأشهر الأخيرة، كان يعمل مع توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، على خطة لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، قدّماها إلى البيت الأبيض في أغسطس.
بعد انتهاء اجتماع 8 سبتمبر في ميامي، أمضى دِرمِر ساعات إضافية على الهاتف مع مسؤول قطري، حتى ساعات الصباح الأولى بتوقيت الدوحة.
لكن بعد نحو 12 ساعة من انتهاء تلك المكالمة، أطلقت المقاتلات الإسرائيلية صواريخها على اجتماع في العاصمة القطرية شارك فيه كبير مفاوضي حماس، خليل الحيّة. لعبت الحكومة القطرية، إلى جانب مصر، دور الوسيط الدولي المهم في حرب غزة منذ بدايتها. وقد عاش عدد من كبار قادة حماس السياسيين في الدوحة لسنوات، ما منح القطريين منفذاً إلى مفاوضي الحركة وقدراً من النفوذ عليهم.
علم ترامب وويتكوف بالضربة الإسرائيلية أثناء وقوعها فقط. وعندما سمع الخبر، اتصل ويتكوف على الفور بجهات الاتصال القطرية، لكن الوقت كان قد فات. أصابت الصواريخ مجمّعاً سكنياً يقيم فيه مسؤولون كبار في حماس، وأودت بحياة ضابط أمن قطري وابن الحيّة. ولم يُقتل أي مسؤول كبير من حماس في الهجوم.
استشاط ويتكوف غضباً، وطلب من رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني التأكد من أن البيت الأبيض لم يكن له أي دور في الضربة الإسرائيلية. واتصل بحكومات عربية أخرى لنقل الرسالة نفسها.
تضيف الصحيفة: شعر القطريون بالصدمة والخيانة، وأفضوا بغضبهم للأميركيين بأن نفوذهم كوسطاء في الصراع قد تم تقويضه. وأبلغ مسؤولون قطريون كوشنر — الذي كان غاضباً ومحرجاً أيضاً من الضربة — أنهم كانوا يتصرفون بحسن نية كوسطاء، فإذا بالإسرائيليين يهاجمونهم كما لو كانوا وكيلاً لحماس في الحرب.
في الوقت نفسه، رأى بعض مسؤولي البيت الأبيض في الضربة الفاشلة فرصة سانحة. إذ إن نتانياهو اتخذ الخطوة معتقداً أنها قد تجعل أعداءه الضعفاء أكثر ضعفاً، لكن إسرائيل أخطأت أهدافها، وكان للهجوم أثر عكسي — إذ أثار غضب الولايات المتحدة وحكومات عربية مؤثرة. ربما، فكّر مسؤولو البيت الأبيض، يمكن استغلال هذه اللحظة لدفع نتانياهو إلى التنازل في بعض نقاط التفاوض التي طالما عارضها.
في 15 سبتمبر، عقد القطريون قمة طارئة للدول العربية والإسلامية في قاعة واسعة بفندق الشيراتون في الدوحة، وأصدر القادة الحاضرون إدانات شديدة لإسرائيل. لكن في الخفاء، عمل مسؤولون من بعض تلك الدول على قائمة مطالب أرادوا إدراجها في أي اتفاق لإنهاء الحرب في غزة، بحسب دبلوماسيين اثنين تحدّثا بشرط عدم الكشف عن هويتهما لبحث مداولات مغلقة الأبواب.
وقالت المصادر إن القائمة النهائية دعت، من بين أمور أخرى، إلى منع إسرائيل من مواصلة العمليات العسكرية، أو ضمّ أو احتلال أراضٍ، أو تنفيذ تهجير قسري للفلسطينيين في غزة.
هل يستطيع ترامب ضبط نتانياهو؟
نقل القطريون المطالب العربية إلى المسؤولين الأميركيين شخصياً، وسافروا إلى نيويورك قبل أيام من بدء أسبوع الاجتماعات رفيعة المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر.
خلال اجتماع يوم 20 سبتمبر، قدّم رئيس الوزراء القطري إلى ويتكوف وكوشنر المطالب العربية. وقال المسؤول القطري إنهم يحتاجون إلى ضمانات من الولايات المتحدة بألا تضرب إسرائيل قطر مرة أخرى، وفقاً لشخص على دراية مباشرة بالمحادثة.
وأثناء وجود ترامب وكوشنر على متن طائرة «إير فورس ون» في اليوم التالي، في طريقهما لحضور مراسم تأبين الناشط المحافظ تشارلي كيرك، تحدثا هاتفياً مع ويتكوف بشأن تفاصيل الخطة التي كانا يعملان عليها. وأصرّ ترامب على أن تتضمن أي خطة لغزة ليس مجرد وقف إطلاق النار بل «خطة إنهاء حرب» يتفق عليها جميع الأطراف.
في 23 سبتمبر، وخلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، عقد ترامب وويتكوف اجتماعاً مع مسؤولين كبار من دول عربية وإسلامية وعرضا ملامح خطة لإنهاء الحرب. قبل الاجتماع، التقى ممثلو تلك الدول في نيويورك ليقدّموا جبهة موحّدة أمام ترامب.
أوكل ترامب إلى ويتكوف مهمة عرض الخطة، وقد تعامل الأخير بحذر لغوي مع أكثر القضايا حساسية. فقال إن حماس بحاجة إلى «إخراج أسلحتها من الخدمة» بدلاً من «تسليمها». وسلّط الضوء على أجزاء من الخطة تشمل انسحاباً إسرائيلياً مرحلياً من غزة، وبقاء الفلسطينيين فيها، وإعادة الرهائن، ومنح عفوٍ لمقاتلي حماس.
وبحسب ممثلين عن حكومات عربية شاركوا في الاجتماع ومسؤولين أميركيين، فقد حظيت الخطة عموماً بقبول جيد لأنها ضمّت إلى حد كبير النقاط الرئيسية التي جرى الاتفاق عليها خلال اجتماع القادة العرب والمسلمين في الدوحة مطلع سبتمبر.
سأل أحد الممثلين العرب في الاجتماع عمّا إذا كانت الولايات المتحدة تدعم حلّ الدولتين. ونظراً لكون المسألة انقسامية، تجنّب كل من ترامب وويتكوف الإجابة المباشرة، وانتقل ويتكوف إلى وصفٍ لقطاع غزة ما بعد الحرب يعلم أن الدول العربية والإسلامية ستدعمه.
وسأل آخرون ترامب كيف يمكنه ضمان أن نتانياهو سيوافق على الخطة — بل وينفّذها فعلياً. ردّ ترامب بأنه سيتولى التعامل مع نتانياهو في هذين الأمرين.
أمر ترامب وزير الخارجية ماركو روبيو بعقد اجتماع متابعة في اليوم التالي. وفي فندق «لوت نيويورك بالاس»، قدّم روبيو لنظرائه من الدول العربية والإسلامية نسخة مكتوبة من الخطة، تضمنت 21 بنداً في المجموع.
اعتذارٌ وصفقة
في الأسبوع الذي سبق بدء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، طلب نتانياهو لقاء ترامب في البيت الأبيض، وفق مسؤولين أميركيين اثنين تحدّثا بشرط عدم كشف هويتهما. ثم قال نتانياهو للصحفيين إنه «دُعي» إلى واشنطن، وهو تصريح أثار غضب مستشاري ترامب.
ومع ذلك، اعتقد بعض المقرّبين من نتانياهو أنه طالما أن ترامب لا يسعى إلى عرقلة أهدافه العسكرية، فلا يهم كثيراً مدى استياء مساعديه.
في 25 سبتمبر، عقد ويتكوف وكوشنر اجتماعات متوترة في نيويورك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي. كان لديهما دعم ترامب للتمسّك بموقفهما في مواجهة اعتراضات نتانياهو المتوقعة على الخطة، واستمرت جلسة المساومة لساعات.
ثم عقد وفدان أميركي وإسرائيلي جلسة أطول بعد ثلاثة أيام، في 28 سبتمبر، في فندق «لووز ريجنسي» بنيويورك. وتجادلوا حول قضايا كبيرة وصغيرة، من مفردات محددة في الوثيقة إلى مسائل جوهرية بشأن مستقبل الحكم في قطاع غزة.
كان نتانياهو متشككاً في المقترح. وخلال الجلسة الماراثونية، ضغط مراراً لتعديل الصياغات بما يقلّص التزامات إسرائيل ويخلق ثغرات قد تجعل الأمر يبدو وكأن حماس انتهكت الاتفاق.
على وجه التحديد، أراد نتانياهو إزالة أي إشارات إلى الدولة الفلسطينية. وأراد ضمان ألا تدير السلطة الفلسطينية أي شيء في غزة، وإضافة تحفظات على الانسحاب الإسرائيلي المقترح من غزة بما يجعله أقل احتمالاً لأن تنسحب القوات الإسرائيلية بالكامل.
اتصل ترامب بالاجتماع مراراً طوال اليوم، فتارة يتحدث مباشرة مع نتانياهو، وتارة يضع استراتيجية منفصلة مع ويتكوف وكوشنر حول كيفية التعامل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في نقاط محددة.
بحلول ساعات متأخرة من 28 سبتمبر، كان قد تم الاتفاق على ما يكفي ليخطط الأميركيون والإسرائيليون لظهور علني في اليوم التالي في البيت الأبيض، حيث سيعلن ترامب ونتانياهو المقترح.
ليس واضحاً تماماً ما الذي وافق عليه ترامب من تغييرات، لكن يبدو أن نتانياهو نجح في تعديل النص لمصلحة إسرائيل، خاصة في مسألة الانسحاب الإسرائيلي. ومع ذلك، لا تزال الخطة تتضمن إشارة غامضة إلى «مسار موثوق لتحقيق تقرير المصير والدولة للفلسطينيين»، وهو ما يعارضه نتانياهو.
تقول المصادر لصحيفة نيويورك تايمز: شعرت دول عربية بالإحباط من بعض التغييرات التي حصل عليها نتانياهو. وحتى يوم الاثنين — اليوم الذي أعلن فيه ترامب ونتانياهو الاتفاق — كان بعض المسؤولين العرب يدفعون نظراءهم الأميركيين إلى تأجيل الإعلان عن التفاصيل الكاملة للخطة خشية ألا توافق عليها حماس. وقالوا إنهم يودّون إجراء تعديلات إضافية لجعل الخطة أكثر قابلية للتطبيق.
لكن ترامب كان مرتاحاً للنص وأراد نشره. وقبل ذلك، كانت هناك مسألة اعتذار نتانياهو للقطريين عن ضربة 9 سبتمبر في الدوحة، وهو مطلب أصرت عليه الحكومة القطرية.
على مدى أكثر من أسبوع، قال ترامب لنتانياهو إنه سيتعين عليه الاعتذار — وإنه هو نفسه يعتذر أحياناً — وحان دور نتانياهو ليقول «أنا آسف».
وقبيل وقوفهما معاً في البيت الأبيض في 29 سبتمبر، وهما يبتسمان بشأن آفاق السلام في الشرق الأوسط، جلس ترامب ونتانياهو جنباً إلى جنب في المكتب البيضاوي. وهناك، أمسك نتانياهو، بوجه متجهم، سماعة الهاتف وقرأ الاعتذار الذي كتبه بنفسه إلى رئيس الوزراء القطري.