من الواضح أن الدول الغنية تفرّط في الإنفاق المالي، ففي يوم الجمعة، وقّع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أخيراً على «مشروع قانون الضخم والجميل»، ليصبح قانوناً نافذاً.
وتشير التقديرات إلى أن تشريع خفض الضرائب سيضيف أكثر من 3 تريليونات دولار إلى عجز الموازنة الأمريكية على مدى العقد المقبل.
ويوم الخميس، وفي اليابان - حيث يتجاوز الدين العام ضعفي ونصف حجم اقتصادها - أطلقت الأحزاب حملات انتخابية لانتخابات مجلس الشيوخ، متعهدة بتقديم مساعدات نقدية وتخفيضات في ضرائب المبيعات.
وقبل بضعة أسابيع فقط اتفق أعضاء حلف الناتو - باستثناء إسبانيا - على زيادة الاستثمارات في الدفاع من 2% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 5% بحلول عام 2035.
وهكذا يبدو أن أكوام الديون الضخمة المتراكمة بالفعل خلال جائحة «كوفيد» لم تعد تشكل أهمية، فبينما يعد الإنفاق الدفاعي ضرورياً فإن السخاء المالي يُخزن المزيد من متاعب، والاقتراض الجديد يجري بأسعار فائدة مُرتفعة، كما أن النمو الاقتصادي، الذي من شأنه أن يخفف عبء الديون تعيقه الحروب التجارية، وعدم اليقين العالمي، كما يتوقع أن تعيق شيخوخة السكان نمو الإنتاجية في المستقبل، وستزيد من فواتير المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية.
ويحتاج العديد من الاقتصادات المتقدمة إلى تقليص عجزها للسيطرة على مسارات الديون المتزايدة بشكل موثوق، لكن عدداً لا بأس به منها يسير في الاتجاه المعاكس، ويبدو أن السياسيين غير قادرين على إجراء التخفيضات اللازمة، ففي الولايات المتحدة لم تحقق ما يسمى وزارة كفاءة الحكومة - وهي فكرة معقولة، لكنها نُفذت بشكل سيئ - أي تقدم يذكر في تحقيق هدفها المتمثل في توفير تريليوني دولار سنوياً.
ويُخفّض مشروع قانون ترامب دعم التأمين الصحي للفقراء، لكن الإدارات المستقبلية ستجد صعوبة في الحفاظ على هذا الهدف.
وفي فرنسا تسعى الحكومة إلى توفير مليارات اليورو لخفض عجزها المرتفع، إلا أن البرلمان المنقسم في البلاد واجه صعوبة في الاتفاق على كيفية تطبيق هذه التخفيضات.
وخلال الأسابيع الأخيرة ألغت حكومة حزب العمال البريطانية تخفيضات مخططة بقيمة 6.25 مليارات جنيه استرليني في المزايا، وذلك بعد ضجة من الناخبين، ومن نوابها، فيما يمكن للتدابير المعززة للنمو أن تخفف ضغوط الديون، من خلال زيادة عائدات الضرائب في المستقبل.
ويقدم مشروع قانون ترامب لخفض الضرائب حوافز سخية للاستثمار، ولكنه يستخدم أيضاً الأموال في حيل انتخابية، بما في ذلك تخفيضات ضريبية للأثرياء.
ويشكك خبراء مستقلون في أن مشروع القانون سيرفع النمو طويل الأجل بشكل ملحوظ، فيما يرد البيت الأبيض بأن الرسوم الجمركية ستجلب إيرادات، لكنها ستكبح أيضاً النشاط التجاري، ويرى الاقتصاديون أيضاً أن التزامات الإنفاق الجديدة الضخمة من جانب الاقتصادات المتقدمة على الدفاع لن تعزز معدلات النمو الأساسية إلا قليلاً، ما لم تُوجه الأموال بشكل أكبر نحو البحث والتطوير.
وليست جميع الدول في الموقف ذاته، فبعد سنوات من العيش في ظل اقتصاد «مقتصد» حظيت ألمانيا بمساحة كافية للمناورة المالية لتخفيف قيودها على الاقتراض هذا العام، وقد خصصت مسودة الميزانية الشهر الماضي أموالاً معقولة لإصلاح البنية التحتية المتهالكة في البلاد، ما من شأنه أن يعزز إمكانات نموها، ومع ذلك يعتمد الكثير على مدى جودة تنفيذ مشاريع البناء، وهذا هو مصدر القلق بشأن التوسع الأخير في استثمارات رأس المال العام في بريطانيا.
تبلغ نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في جميع الاقتصادات المتقدمة حوالي 110%، وهي آخذة في الارتفاع. وعاجلاً أم آجلاً ستضطر الحكومات إلى مواجهة العواقب الوخيمة.
وفي الوقت الحالي من الواضح أن قادة اليوم يأملون بأن يقوم من يخلفهم بالعمل الجاد. في غضون ذلك سيطالب المستثمرون بعلاوات أعلى لإقراض الحكومات، لا سيما مع تراجع البنوك المركزية عن شراء السندات الحكومية، ويعني ذلك أن سداد الديون سيستهلك حصة متزايدة من الموارد العامة.
عموماً فإن الجزء السهل من الحكم هو إنفاق المال بينما الأصعب هو خفض التكاليف، ووضع سياسات لتعزيز النمو، لكن مهمة السياسيين هي اتخاذ خيارات صعبة، وتراكم الديون المتنامي يجعل ذلك أكثر إلحاحاً، وإذا لم يأخذوا هذه المهمة على محمل الجد فستفعل أسواق السندات ذلك.