الشبكة العربية للأنباء
الرئيسية - أخبار العالم - ما يحدث في الأسواق لم يتسبب به ترامب وحده

ما يحدث في الأسواق لم يتسبب به ترامب وحده

الساعة 04:18 مساءً

 

 

تناول بعضهم ظاهرة أطلق عليها «تحول المزاج العام»، وهي ظاهرة تستند إلى مجموعة من المؤشرات، من بينها قراءات معنويات المستثمرين التي تكشف عن تغير في ثقتهم، والتحولات في الشركات والقطاعات التي تقود الأسواق، إلى جانب تراجع البيانات الاقتصادية الأساسية. وبتحليل هذه المؤشرات، يبدو أن هناك تغييراً جوهرياً قد طرأ على بنية الأسواق المالية والمناخ الاقتصادي العام، وهو تغيير يتجه نحو التدهور لا التحسن.

 

ويتفق المحللون على أن هذا التحول في الأوضاع الاقتصادية يعود إلى سياسات إدارة ترامب. وليس من المستغرب أن تتبلور هذه السردية في الأسواق، إذ إن أجندة ترامب، القائمة على التحرك السريع وإحداث تغييرات جذرية، هيمنت على المشهد الإعلامي بالتزامن مع هذا التحول. ومع ذلك، ينبغي توخي الحذر، فليس كل تفسير بسيط بالضرورة صحيحاً، كما أن التركيز المفرط على السياسات، مهما بدت ثورية، قد يحجب عوامل أخرى مؤثرة. ويمكن تلخيص الانتقادات الموجهة لإدارة ترامب في محاور رئيسة:

 

إن انعدام اليقين في شأن السياسات وترتيب أولوياتها يؤثر سلباً في ثقة المستثمرين. فقد أظهرت استطلاعات جامعة ميشيغن و«ذا كونفرنس بورد» انخفاضاً ملحوظاً في معنويات المستهلكين. وأشار المشاركون إلى سياسة التعريفات الجمركية والتضخم كونها مصادر رئيسة للقلق.

 

كما استشهد المحللون بمؤشر «بيكر وبلوم وديفيس» المتخصص في قياس حالة عدم اليقين في السياسة الاقتصادية، باحتسابه دليلاً على أن نهج الإدارة الحاد والمفاجئ في رسم السياسات يزعزع استقرار الأسواق. ويتتبع هذا المؤشر تغطية الإعلام للسياسات، والتعديلات الضريبية المرتقبة، وتباين التوقعات الاقتصادية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المؤشر لم يسجل مستويات أعلى من الحالية سوى في بداية جائحة كوفيد.

 

وتسير سياسات إدارة ترامب الجديدة في اتجاه مغاير لما كانت عليه في ولايته الأولى، إذ أولت السياسات الحمائية وتشديد قوانين الهجرة اهتماماً أكبر، وهي إجراءات لا تحظى بقبول الأسواق، بينما تأجلت السياسات التي تعد صديقة للاستثمار، مثل الخفوض الضريبية وتخفيف القيود التنظيمية.

 

وتقول تيفاني ويلدينغ، الخبيرة الاقتصادية البارزة في مؤسسة «بيمكو»: «نعتقد بأن ردود الفعل الأولية في الأسواق عقب انتخاب ترامب — والتي كانت مشابهة للنتائج المسجلة في استطلاعات جامعة ميشيغن — أبرزت على الأرجح تركيزاً أكبر على توقعات سياسات محفزة على النمو، مثل الخفوض الضريبية المحتملة وإلغاء بعض القيود التنظيمية.

 

غير أن الإعلانات والقرارات التي صدرت منذ تنصيب ترامب ركزت بصورة أكبر على إجراءات محتملة مزعزعة لاستقرار التجارة الدولية وسياسات الهجرة، فضلاً عن خفوض أكثر حدة في الخدمات الحكومية... ويبدو أن الأسواق بدأت تدرك هذا التحول الحاصل في طبيعة الأخطار وتوازنها».

 

ولخّص أحد مديري السندات الوضع قائلاً: «الوضع أصبح أكثر وضوحاً: معظم السياسات المقترحة أو التي يتم تنفيذها في واشنطن تُضعف النمو الاقتصادي». وتشير البيانات إلى أن المعنويات السلبية أثرت في النشاط الاقتصادي.

 

ففي أحدث التقارير، أظهر تقرير نفقات الاستهلاك الشخصي الحكومي الصادر منذ أيام أن الإنفاق الاستهلاكي المعدّل حسب التضخم تراجع بنسبة 0.5% في يناير، مع تسجيل انخفاض واضح في مبيعات السلع المعمرة، وخصوصاً السيارات. كما تراجع الإنفاق على الخدمات، بينما ارتفع معدل الادخار. وتُعد هذه القراءة الأسوأ من نوعها منذ سنة 2021.

 

ويقول كريستيان كيلر، الاقتصادي في باركليز: «حالة عدم اليقين المرتبطة بالتعريفات الجمركية، وسياسات إدارة الكفاءة الحكومية، وعجز الميزانية، والضجة في شأن اتفاق السلام في أوكرانيا بدأت تؤثر سلباً في النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة. وتشير البيانات الأخيرة إلى أن السياسات المتبعة بدأت إحداث تداعيات سلبية.

 

فقد دفعتنا بيانات الإنفاق والتجارة، إلى جانب توقعات بزيادة التأثيرات السلبية لعدم اليقين، إلى خفض توقعاتنا لنمو الناتج المحلي الإجمالي للربع الأول (بمقدار نقطة مئوية واحدة) والربع الثاني (بنصف نقطة مئوية) لتصل إلى 1.5% على أساس ربع سنوي. وصحيح أن هذا التباطؤ لا يرقى إلى مستوى الركود، ولكنه يمثل تباطؤاً ملحوظاً مقارنة بمعدلات النمو في العامين الماضيين».

 

وينسجم هذا التحليل مع ما نشهده في سوق السندات، إذ إن انخفاض عوائد سندات الخزانة منذ وصولها إلى الذروة في يناير كان مدفوعاً بشكل أساسي بانخفاض أسعار الفائدة الحقيقية، التي ترتبط بالنمو، وليس بانخفاض توقعات التضخم. إلى جانب ذلك، قد يؤدي استمرار حالة عدم اليقين إلى تراجع الاستثمارات، ما يحدّ النمو على المدى الطويل.

 

وقد جمع تورستن سلوك من «أبولو» بيانات من عمليات مسح أجراها الاحتياط الفيدرالي عن خطط الشركات للإنفاق الرأسمالي، والتي كانت في ارتفاع في السنوات الماضية، ولكنها شهدت تراجعاً في فبراير. ويشير سلوك إلى أن «تأثير إدارة الكفاءة الحكومية والتعريفات الجمركية معاً يشكّل صدمة مؤقتة معتدلة للاقتصاد، تدفع التضخم للارتفاع بشكل طفيف وتؤدي إلى ضغوط هبوطية متواضعة على الناتج المحلي الإجمالي».

 

وتبدو فرضية «الأمر برمّته خطأ ترامب» منطقية في مجملها، ولكنها قد تؤدي إلى استنتاجات مبالغ فيها. فواحدة من أبرز صفات ترامب قدرته على إثارة العواطف، بينما تعتمد الأسواق على الهدوء والتروي. ولذا، هناك نقاط يجب وضعها في الاحتساب:

 

أولاً، كان الاقتصاد ينمو بمعدل يفوق اتجاهه الطبيعي، ولذا فإن التباطؤ لم يكن مفاجئاً. وعلى المدى الطويل، لا يمكن للاقتصاد الأمريكي أن يحافظ على معدل نمو حقيقي بين 2.5 و3%، على الرغم من أنه حقق ذلك في السنوات الأخيرة. وقد تكون سياسات ترامب أسهمت في تسريع التراجع إلى مستوى أكثر واقعية بين 1 و2%، ولكن هذا التصحيح كان حتمياً، وخاصة مع استقرار معدل الفائدة الفيدرالي عند 4.5%.

 

ثانياً، شهر واحد لا يكفي للحكم على الاتجاه العام، وخاصة حينما يكون هذا الشهر هو يناير، فالبيانات الاقتصادية تأتي متباينة أحياناً، والطقس البارد والحرائق ربما أثرا في أحدث أرقام الإنفاق. كما أن شهر يناير يحمل عادة تقلبات غير متوقعة لسبب ما، وهذا ما يظهر عند مراجعة بيانات الإنفاق الشخصي للأعوام الماضية، مثل 2024 و2023.

 

وحتى لو افترضنا أن الأسواق المالية تستجيب للاندفاع السياسي للإدارة الأمريكية الجديدة، فإن ما يحدث يبدو أقرب إلى تصحيح لموجة من المبالغة في التفاؤل صاحبت ما سمي «صفقات ترامب» في أواخر العام الماضي، ولا يعد ذلك تحولاً هيكلياً عميقاً في الاقتصاد. وخير مثال على ذلك الأداء المتذبذب لأسهم الشركات الصغيرة، التي كانت المستفيد الأكبر من فكرة أن «سياسات ترامب ستعزز النمو الاقتصادي المحلي».

 

ولكن الأهم من ذلك أن التحول الأبرز في الأسواق — الأداء المتراجع لأسهم شركات التكنولوجيا السبع الكبرى — لا يبدو أنه مرتبط بالضغوط السياسية الناجمة عن سياسات ترامب. بل على العكس، قد يُفترض أن عدم اليقين في السياسات يعزز جاذبية هذه الشركات، نظراً لأن أداءها يعتمد بشكل أقل على التقلبات الاقتصادية الدورية. ومع ذلك، فإن تراجعها الأخير يبدو أشبه بتصحيح طبيعي بعد فترة ازدهار مفرط، ولا تقتصر هذه الظاهرة على شركات التكنولوجيا الكبرى، وإنما أيضاً تشمل قطاعات أخرى في السوق شهدت ارتفاعات غير مبررة بعد الازدهار الذي أعقب الجائحة.

 

والسؤال الجوهري الذي يواجه الأسواق اليوم ليس ترامب، بل ما إذا كانت الأصول الاستثمارية الأمريكية عالية الأخطار ستتمكن من العودة إلى مستويات تقييم طبيعية بعد عدة سنوات من التفاؤل المفرط في مرحلة ما بعد الجائحة. لا خلاف في أن دونالد ترامب «آلة» فائقة القدرة على جذب الانتباه الإعلامي والعام، إلا أن المبالغة في نسب التطورات الجارية في الأسواق والاقتصاد إلى سياسات إدارته خطأ في قراءة المشهد الاقتصادي الحالي.