أدى نموذج "ديب سيك" للذكاء الاصطناعي إلى جنون في مبيعات الأسواق بسبب التكلفة المنخفضة للغاية التي من المفترض أن يتم تدريبه بها، وتبلغ 6 ملايين دولار مقابل 100 مليون دولار لمنافسه الأميركي الأكثر شهرة، "تشات جي بي تي".
ويبدو أن الصينيين، الذين قيدتهم العقوبات الأميركية في استخدام أشباه الموصلات الأكثر تقدماً، قد وجدوا طريقة لتحقيق نتيجة مماثلة باستخدام قوة إلكترونية أقل تكلفة بكثير، مما يشير إلى أن شركات الرقائق الأميركية ربما تكون مبالغاً في قيمتها بشكل كبير.
لكن يُعتقد أن المبلغ الذي يبلغ ستة ملايين دولار لا يشمل تكاليف البنية الأساسية، والرقائق التي تم شراؤها مسبقاً، والقدرة على التعلم من نتائج نماذج "المصدر المفتوح" التي تنتجها الشركات المنافسة وربما سرقة البيانات.
إلا أن هذه الطفرة التكنولوجية لا تزال تشكل صفعة قوية للنفسية الأميركية، وتطرح تساؤلاً عما إذا لحقت الصين بالركب في مختلف التقنيات المتقدمة؟ أو حتى تفوقت على الغرب في العديد من المجالات، وفق تقرير لصحيفة "ذا تايمز".
أكبر منتج في العالم
في عام 2023، وجدت مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، وهي مؤسسة بحثية أميركية تتعقب الابتكار باستخدام مقياس يسمى مؤشر "هاملتون"، أن الصين كانت أكبر منتج في العالم في سبع من الصناعات العشر المهمة استراتيجيا التي تتبعها.
وتتصدر الصين مجالات متنوعة مثل تصنيع البطاريات والألياف الضوئية وأدوات الآلات والتوربينات والمواد الكيميائية وإنتاج المعادن وتشكيلها.
كذلك تتقدم على الولايات المتحدة بعشرة إلى خمسة عشر عاما في قدرتها على نشر الطاقة النووية الجديدة، ولديها أكبر حصة سوقية في الإنتاج المتقدم للسيارات الكهربائية، وهي قريبة من التكافؤ مع الولايات المتحدة في الروبوتات والذكاء الاصطناعي، وتتأخر بنحو 18 شهرًا فقط عن كوريا الجنوبية في تكنولوجيا الشاشة.
المجالات الوحيدة تقريباً التي تتقدم فيها دولة أخرى غير الصين بشكل شامل هي الأدوية وأشباه الموصلات المتطورة والكم، ولكن حتى هناك تتمتع الصين بالميزة في بعض المجالات المتخصصة. وقد تكون هذه التقييمات قديمة بالفعل.
كيف حدث هذا؟
هذه التطورات المذهلة تدين بالكثير لمشروع "صنع في الصين 2025"، وهو مشروع استمر عشر سنوات ويقترب الآن من نهايته.
ومن الواضح أن هذا المشروع يتوافق مع العقيدة الماركسية القديمة حول امتلاك وسائل الإنتاج، ويستند إلى أفكار عصر دينج حول الأسواق المحلية مقابل الأسواق الأجنبية، وعلى مذاهب أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حول "الخروج" والاستثمار في الخارج، ولكنه أيضا شيء جديد.
فبعد الأزمة المالية في عام 2008 وكشف سنودن في عام 2013 عن المراقبة الأميركية، وبعد تحقيق أقصى إمكانات التنمية لتصدير الأثاث والنعال، قرر شي جين بينغ أن الوقت قد حان لكي تتحرك الصين إلى أعلى سلسلة القيمة وتعتمد بشكل أقل على التكنولوجيا الأجنبية.
وذكر عشر صناعات كان من المقرر أن تهيمن عليها الصين، مثل السكك الحديدية والتكنولوجيا الخضراء، وحدد موعدا نهائيا.
فيما كانت الأساليب المستخدمة متنوعة فقد تم إرضاء الأساتذة الأجانب ومنحهم مختبرات ضخمة جديدة ووظائف مريحة.
وتمت دعوة قادة الصناعة الأجانب إلى الصين بوعد بالإعفاءات الضريبية والوصول إلى السوق واللوائح التنظيمية المضيافة.
أساليب متنوعة
وفي كثير من الحالات، سرعان ما سُرقت التكنولوجيا والمعرفة التي يمتلكونها أو نُسِخَت أو "نقلت" إلى "شريكهم" الصيني. وتم فرض إعانات سخية على القطاعات المحلية المفضلة، من خلال المنح أو القروض.
كذلك كانت هناك حوافز لشراء المنافسين الأجانب، وتم تطبيق التعريفات الجمركية على المنافسين الذين لا يمكن شراؤهم. وفي بعض المجالات ــ الألواح الشمسية، وعلم الوراثة ــ استخدمت بكين العمل القسري أو المراقبة غير المقيدة. والعديد من هذه الأساليب معروفة الآن وقد تم التنديد بها بصوت عالٍ.
ولكن من الخطأ أن نركز فقط على النشاط القمعي أو العدائي الصارخ. فإلى جانب الهجوم المخملي على الشركات الأجنبية والتكنولوجيا كانت هناك مبادرات متطورة، وبعضها ينبغي لنا أن نتعلم منه ونحاكيه.
تجنيد الخبراء
فقد أنشأت الحكومة حدائق علمية وصناعية ضخمة، كاملة بالمدارس والكليات والعيادات والإسكان بأسعار معقولة والنقل وما إلى ذلك.
وجندت خبراء أجانب وجهزت مرؤوسيهم الصينيين أو الطلاب للتعلم منهم. كما كلفت بإنشاء خطوط السكك الحديدية عالية السرعة، وبمساعدة غير مقصودة من شركات أوروبية مثل سيمنز وألستوم، أنشأت شركات السكك الحديدية المحلية الخاصة بها لتزويدها.
كما موّلت مراكز البحوث في الجامعات ووجهت الطلاب إلى المجالات ذات الصلة. كما أنشأت العديد من "صناديق التوجيه"، وهو نوع من رأس المال الاستثماري المشترك بين القطاعين العام والخاص مع أهداف العائد لبناء صناعة أشباه الموصلات الخاصة بها.
ورغم تجاهل الأجانب لهذه السياسات، ثم الاستهزاء بها، ثم إدانتها، فإن النقطة البارزة في هذه السياسات هي أنها نجحت.
فالصين نموذج اقتصادي ناجح. وهذا يعني أنها عملت وفقاً لشروطها الخاصة: فقد استحوذت على حصة من السوق العالمية، وتحديت المعارضين، ودفعت العديد من الصناعات الصينية إلى حافة التقدم.
إلا ان هذا لا يجيب على السؤال حول مدى الربحية التي حققتها أو ما إذا كان النموذج بأكمله مستداماً. فبعيداً عن نجاح "صنع في الصين" هناك اقتصاد حيث نمت الديون بسرعة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي لمدة عقد من الزمان، ويتقدم السكان في السن بسرعة قياسية، ولا تزال الحكومة تدعم قطاعاً عقارياً ضخماً مفلساً.
فيما الصناعات الناجحة في الصين ليست في سباق مع الغرب فحسب؛ بل إنها أيضاً في سباق مع انحدارها الاقتصادي. قد تكون بكين أكثر اكتفاءً ذاتياً وأكثر هيمنة من أي وقت مضى في التجارة العالمية، ولكن إلى متى يمكن للنموذج بأكمله أن يستمر في خسارة المال قبل أن يكفي؟