لم يمضِ دونالد ترامب قدماً بعد في تنفيذ تهديداته بفرض المزيد من التعريفات الجمركية، إلا أن احتمالية تنفيذها تبقى قائمة، لذلك تظل المخاوف قائمة أن موقف الرئيس الأمريكي المتشدد تجاه التجارة قد يؤدي إلى فوضى عالمية، ويثقل كاهل النمو الاقتصادي، ويتسبب في اضطرابات بالأسواق، لا سيما إذا قررت الدول المستهدفة بهذه التعريفات اتخاذ إجراءات انتقامية.
مع ذلك قد لا تكون الردود الانتقامية الخيار الوحيد أو الأكثر ترجيحاً كرد فعل تجاه قرارات ترامب، بغض النظر عن مدى اتساع نطاق تهديداته عند تنفيذها.
وقد استخدمت الولايات المتحدة بالفعل التعريفات الجمركية كأداة ضغط على مدار السنوات الثماني الماضية، وبالنسبة للتعريفات التي فرضها ترامب خلال ولايته الأولى فقد أبقت البلاد على معظمها، كما في حالة الصين، أو قام الرئيس السابق جو بايدن بتوسيع نطاقها، وبينما ردت بعض الدول بإجراءات انتقامية اختارت دول أخرى تقديم تنازلات أو اللجوء إلى المحاكم التجارية الدولية للطعن في هذه التعريفات. ومع ذلك انسجمت أغلبية الدول مع هذه السياسات، وسعت إلى توسيع علاقاتها التجارية مع شركاء آخرين بعيداً عن الولايات المتحدة.
ومنذ عام 2017 وكان العام الأول لرئاسة ترامب للبلاد أبقت التجارة على حصتها تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، والتي تبلغ نسبة دون 60%. وفيما كان هناك انخفاض بحصة الولايات المتحدة من التدفقات التجارية فقد كانت هناك زيادة في مناطق أخرى، خاصة الدول في آسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط، ويبدو من المُرجح أن تأتي الفترة الرئاسية الثانية لترامب بمزيد من هذا التوجه، أي التجارة دون الولايات المتحدة.
وارتفعت حصة التجارة من الناتج المحلي الإجمالي الوطني بأربع من بين كل خمس دول على مدى الأعوام الثمانية الماضية، سواء كانت هذه الدول متقدمة أم نامية. وسجل أكثر من 10 دول كبرى، من اليابان وإيطاليا والسويد، وحتى فيتنام واليونان وتركيا، زيادة بأكثر من 10 نقاط مئوية، لكن الولايات المتحدة كانت الاستثناء وسط كل ذلك، حيث تراجعت النسبة إلى نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالرغم من تسجيل النمو في الولايات المتحدة وتيرة أسرع مقارنة بأغلبية نظرائها، إلا أن هذا النمو لم يأتِ بدعم من التجارة.
وربما تتمتع الولايات المتحدة بهيمنة متزايدة باعتبارها قوة عظمى مالية واقتصادية، لكنها لم تعد قوة تجارية على النحو ذاته. وبالرغم من القفزة بحصتها من مؤشرات الأسهم العالمية إلى قرابة 70%، وارتفاع حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى أكثر من 25%، إلا أن حصتها من التجارة العالمية تسجل مستويات دون 15%، بل انخفضت على نحو بالغ على مدى الأعوام الثمانية الماضية.
وتركز الكثير من التحذيرات بشأن تأثير ترامب على كيف يمكن للتعريفات الجمركية الجديدة أن تضر بالدول المصدرة التي تعتمد على الولايات المتحدة باعتبارها العميل الأساسي لها، لكن الدول المتقدمة شهدت نمواً مستقراً، كما سجلت الدول النامية تسارعاً قوياً في صادرات كل من السلع (بقيادة المنتجات التكنولوجية والسلع الأساسية) والخدمات (بقيادة النقل والقطاعات الرقمية)، وذلك خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب وقبل هبوب الجائحة ورغم تعريفاته الجمركية العدوانية.
وقد انهارت المفاوضات التجارية العالمية بعد عام 2008، إذ إن التوترات الناجمة عن الأزمة المالية في ذلك العام تسببت في صعوبة إبرام الاتفاقيات متعددة الأطراف، لكن الكثير من الدول واصلت السعي إلى إبرام اتفاقيات أصغر حجماً، وارتفع عدد الاتفاقيات الثنائية والإقليمية على نحو مطرد، مع وجود محفزات جديدة بعد تولي ترامب للرئاسة الأمريكية في المرة الأولى، وبعدما أطلق على نفسه لقب «رجل التعريفات».
وأصبحت الولايات المتحدة «ناشزاً» تَرقب الأمور من بعيد، بينما أخذت دول أخرى تتقن فن إبرام الاتفاقيات التجارية. ومنذ عام 2017 تخلت الولايات المتحدة عن مفاوضاتها لإبرام شراكات مع الاتحاد الأوروبي وآسيا، ولم تبرم أي اتفاقيات تجارية جديدة، فيما تفاوض الاتحاد الأوروبي على 8 اتفاقيات، وأبرمت الصين 9، بما في ذلك شراكة تاريخية تضم 15 دولة في آسيا.
وبحلول نهاية العام الماضي انتعش إبرام الاتفاقيات من جديد مع اقتراب بدء الفترة الثانية لترامب، وسارع الاتحاد الأوروبي إلى الانتهاء من إطار اتفاقية صعبة كانت قيد التفاوض طيلة 25 عاماً، مع عدد من الدول الأعضاء في تحالف «ميركوسور» في أمريكا الجنوبية.
وتبع ذلك الانتهاء من اتفاقية مع المكسيك، التي تسارع هي الأخرى إلى توسيع صلاتها التجارية مع دول أخرى في أمريكا اللاتينية، ما يُعزى جزئياً إلى أن هذه الاتفاقيات ستكون بمثابة تأمين ضد ما قد يقرره ترامب لاحقاً.
وبالنسبة لنتيجة كل ذلك، وعلى مدى الأعوام الثمانية الماضية ووسط ابتعاد مركز التجارة العالمية عن الولايات المتحدة نحو الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا، كانت الإمارات وبولندا، والصين فوق ذلك، من بين الدول التي حققت مكاسب كبيرة، ومن بين الممرات التجارية العشر الأسرع نمواً، تنتهي خمس ممرات إلى الصين، بينما ينتهي اثنان فقط في الولايات المتحدة.
يقول ترامب إن التعريفات الجمركية تفرض الاحترام وتساعد على استعادة الولايات المتحدة لقوتها، لكن ثمة خطر بارز يجدر وضعه في الاعتبار، وهو أن نموذج الشعبوية، الذي يتبناه الرئيس الجديد يتعهد بتحرير البلاد من التدخل الحكومي الكبير عن طريق الضرائب واللوائح التنظيمية، فيما تعتبر التعريفات مجرد شكل آخر، وهي خاضعة على نحو متساوٍ لقوانين العواقب غير المقصودة.
وحتى تاريخه لم يؤدِ نظام التعريفات الجمركية تحت مظلة «أمريكا أولاً» إلى ضرر كبير بالهدف الرئيسي، وهو الصين، بقدر ما أجبر حلفاء الولايات المتحدة على السعي إلى التجارة مع آخرين. إذن، فإن خطر فرض تعريفات جمركية أكثر اتساعاً قد يكون أقل تعلقاً بإثارة حروب تجارية وأكثر ارتباطاً بتقويض مكانة الولايات المتحدة باعتبارها قوة تجارية، وسيسفر ذلك في نهاية المطاف عن إضعاف قوتها الاقتصادية.