كوكب الأرض يتم إغلاقه حالياً، وفي الكفاح من أجل السيطرة على فيروس «كوفيد-19»، تُطالب دولة تلو الأخرى مواطنيها بضرورة التباعد الاجتماعي، وبينما تدفع هذه التدابير إلى انكماش اقتصادي، تحاول الحكومات دعم الشركات والمستهلكين، من خلال تقديم تريليونات الدولارات، كمساعدات وضمانات قروض، ولا أحد يستطيع أن يتأكد من مدى نجاح عمليات الإنقاذ هذه.
لكنّ هناك ماهو أسوأ، إذ تشير نتائج جديدة مثيرة للقلق إلى أن وقف الجائحة قد يتطلب عمليات إغلاق متكررة، ومع ذلك من الواضح الآن، أيضاً، أن مثل هذه الاستراتيجية ستصيب الاقتصاد العالمي بالضرر الجسيم، الذي ربما لا يمكن تحمله، بينما تنتظرنا بعض الخيارات الصعبة للغاية.
بعد نحو 12 أسبوعاً، من التقارير الأولى عن مرض أشخاص بشكل غامض، في ووهان وسط الصين، بدأ العالم استيعاب الخسائر البشرية والاقتصادية الحقيقية لهذا الوباء، وحتى 18 مارس سُجلت أكثر من 134 ألف إصابة خارج الصين، في 155 دولة وإقليماً. وفي غضون سبعة أيام فقط، شهدنا زيادة نحو 90 ألف حالة، مع انضمام 43 دولة وإقليماً، ويُعتقد أن العدد الحقيقي للحالات أكبر بكثير.
وفي حالة من الخوف، تتسرّع الحكومات في فرض ضوابط لم يكن من الممكن تصورها قبل أسابيع قليلة. وحظرت عشرات الدول، بما في ذلك دول عدة في إفريقيا وأميركا اللاتينية، حركة المسافرين من أماكن ينتشر فيها الفيروس. وفي هذه الأثناء، تبدو ساحة «تايمز سكوير» في نيويورك مهجورة، ومدينة لندن مظلمة، وفي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا أقفلت المقاهي والحانات والمطاعم أبوابها، بينما باتت الملاعب الخالية في كل مكان دون صدى، نظراً إلى غياب الجماهير.
حِزَم إنقاذ
لقد أصبح من الواضح أن الاقتصاد يتعرّض لضربة أسوأ بكثير مما توقعه المحللون، وتظهر بيانات يناير وفبراير الماضيين أن الإنتاج الصناعي في الصين، الذي كان من المتوقع أن ينخفض بنسبة 3% مقارنة بالعام السابق، انخفض بنسبة 13.5%، ولم تكن مبيعات التجزئة أقل بنسبة 4% بل 20.5%. كما انخفض استثمار الأصول الثابتة، الذي يقيس الإنفاق على أشياء مثل الآلات والبنية التحتية، بنسبة 24%، أي أكثر بست مرات مما كان متوقعاً. وقد دفع ذلك الخبراء الاقتصاديين، في جميع أنحاء العالم، إلى مراجعة توقعاتهم. وفي مواجهة الركود الأكثر وحشية في الذاكرة الحية، تضع الحكومات حزم الإنقاذ على نطاق يتجاوز حتى الأزمة المالية في 2007-2009.
هذه هي الخلفية للخيارات الأساسية حول كيفية إدارة المرض. وباستخدام نموذج علمي، وضعت مجموعة خبراء من «إمبريال كوليدج» في لندن، الأسبوع الماضي، إطار عمل لمساعدة صنّاع القرار على التفكير في ما ينتظرنا.
أحد الأساليب هو «التخفيف»، أو «تسطيح المنحنى»، لجعل الوباء أقل شدة من خلال عزل الحالات والعائلات المصابة، والآخر هو تبني مجموعة واسعة من التدابير الصارمة، بما في ذلك الإغلاق الكامل ليشمل جميع الأشخاص، عدا أولئك الذين لا يستطيعون العمل من المنزل، وإغلاق المدارس والجامعات، وتهدف هذه التدابير المشددة إلى إيقاف تفشي الوباء.
وجد الخبراء أنه لو تُرك الفيروس ينتشر، فسيتسبب في هلاك نحو 2.2 مليون شخص في أميركا، ونصف مليون في بريطانيا، بحلول نهاية الصيف. وخلصوا إلى أنه في الاقتصادات المتقدمة، فإن ثلاثة أشهر من «تسطيح المنحنى»، بما في ذلك الحجر الصحي لمدة أسبوعين للأسر المصابة، ستمنع في أحسن الأحوال نصف هذه الحالات فقط، علاوة على ذلك فإن ذروة الطلب على العناية المركزة ستصل إلى ثمانية أضعاف في بريطانيا، ما يؤدي إلى المزيد من الوفيات التي لم يحسب الخبراء حسابها. وإذا استمر هذا النمط في أجزاء أخرى من أوروبا، فإن أفضل أنظمتها الصحية ذات الموارد، بما في ذلك ألمانيا، ستكون مُرهَقة.
أكثر كفاءة
في الواقع، هناك مفاضلات بين الاستراتيجيتين، على الرغم من أن الحكومات يمكن أن تجعل كليهما أكثر كفاءة. وأظهرت كوريا الجنوبية والصين وإيطاليا أن ذلك يبدأ باختبار شامل، وكلما كان بالإمكان تحديد الشخص المصاب بشكل أوضح، قل الاعتماد على القيود العشوائية. ويتعين إجراء اختبارات الأجسام المضادة للفيروس، وتحديد الأشخاص الذين أصيبوا بالعدوى وأولئك الذين تعافوا، ما سيشجع الناس على القيام بأعمالهم، وهم على علم بأنهم لا يمكن أن يكونوا مصدراً لمزيد من العدوى.
الخط الثاني
الخط الثاني للهجوم هو استخدام التكنولوجيا لإدارة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي. وتستخدم الصين التطبيقات لتأكيد مَن هو خالٍ من المرض ومن ليس كذلك. كما تستخدم كوريا الجنوبية البيانات الضخمة ووسائل التواصل الاجتماعي، لتتبع العدوى وتنبيه الأشخاص إلى النقاط المهمة، وتقريب جهات الاتصال. وغيّرت كوريا الجنوبية القانون للسماح للدولة بالوصول إلى السجلات الطبية ومشاركتها من دون إذن مسبق. وفي الأوقات العادية قد تجد العديد من الديمقراطيات أن هذا الأمر تطفلي للغاية، وحالياً الأوقات ليست طبيعية.
وأخيراً، يجب على الحكومات الاستثمار في الرعاية الصحية، حتى إذا كانت جهودها تستغرق أشهراً، حتى تؤتي ثمارها، وقد لا تكون هناك حاجة إليها على الإطلاق. ويجب أن تزيد من قدرات العناية المركزة. وتفتقر دول، مثل بريطانيا والولايات المتحدة، بشدة إلى الأسرّة والمتخصصين وأجهزة التنفس. ويجب على تلك الدول تحديد أفضل بروتوكولات العلاج، وتطوير اللقاحات واختبار الأدوية العلاجية الجديدة، وكل هذا سيجعل «التخفيف» أقل فتكاً، والصرامة أقل كلفة. يجب ألا نتوهم كثيراً، إذ قد لا تمنع هذه الإجراءات الوباء من التسبب في خسائر فادحة. ويبدو أن الحكومات، اليوم، ملتزمة بالصرامة مهما كانت الكلفة، لكن إذا لم تتم محاصرة المرض بسرعة، فستتجه نحو التخفيف، حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى المزيد من الوفيات. ومن المفهوم أن هذه ليست مجرد مقايضة ترغب أي حكومة في التفكير فيها، وقريباً قد لا يكون لديها أي خيار.
تشير نتائج جديدة مثيرة للقلق إلى أن وقف الجائحة قد يتطلب عمليات إغلاق متكررة، ومع ذلك من الواضح الآن، أيضاً، أن مثل هذه الاستراتيجية ستصيب الاقتصاد العالمي بالضرر الجسيم الذي ربما لا يمكن تحمله، بينما تنتظرنا بعض الخيارات الصعبة للغاية.
من الواضح أن الاقتصاد يتعرّض لضربة أسوأ بكثير مما توقعه المحللون. وتظهر بيانات يناير وفبراير الماضيين أن الإنتاج الصناعي في الصين، الذي كان من المتوقع أن ينخفض بنسبة 3% مقارنة بالعام السابق، انخفض بنسبة 13.5%، ولم تكن مبيعات التجزئة أقل بنسبة 4% بل 20.5%.
معدلات منخفضة
لا عجب أن تختار الحكومات الضوابط الأكثر صرامة واللازمة لكبح جماح الوباء. وتتمتع الصرامة بميزة أنها نجحت في الصين. وفي 18 مارس أضافت إيطاليا 4207 حالات جديدة، في حين لم تسجل ووهان أي حالة على الإطلاق. وسجلت الصين ما يزيد قليلاً على 80 ألف حالة من بين 1.4 مليار نسمة. وللمقارنة، قدّر خبراء كلية «إمبريال كوليدج» أن الفيروس المستجد سيصيب أكثر من 80% من السكان في بريطانيا وأميركا، في حال ترك يتفشى من دون تدابير وقائية.
من خلال الحفاظ على معدلات الإصابة منخفضة نسبياً، فإن ذلك يترك العديد من الأشخاص عُرضة للفيروس. وبما أن «كوفيد-19»، منتشر الآن داخل البلدان وحول العالم، فإن نموذج «إمبريال كوليدج» يشير إلى أن الوباء سيعود في غضون أسابيع قليلة من رفع القيود، ولتجنب ذلك يجب على البلدان ردع المرض في كل مرة يظهر فيها، وقضاء نصف وقتها، على الأقل، في الإغلاق. ويجب تكرار هذه الدورة المتقطعة حتى يزول خطر الوباء عن السكان تماماً، أو يكون هناك لقاح، قد يتوافر في غضون أشهر.
هذا مجرد نموذج، والنماذج العلمية هي مجرد تخمينات تستند إلى أفضل الأدلة. ومن هنا تكون أهمية مشاهدة ما يجري في الصين، لمعرفة ما إذا كانت الحياة هناك يمكن أن تعود إلى طبيعتها من دون أن يتفشى المرض مرة أخرى. والأمل أن تتمكن فرق علماء الأوبئة من إجراء الاختبارات على نطاق واسع للكشف عن حالات جديدة في وقت مبكر، وتتبّع المخالطين لها، وحجرهم الصحي من دون قلب حياة المجتمع رأساً على عقب. ربما ستتم مساعدتهم بأدوية جديدة، مثل علاج ياباني مضاد للفيروسات، قالت الصين، الأسبوع الماضي، إنه واعد.
لكن هذا مجرد أمل، والأمل ليس سياسة، الحقيقة المرة أن التخفيف يكلف الكثير من الأرواح وقد تكون الصرامة غير مستدامة اقتصادياً. وبعد بضع مرات من التكرار، قد لا تمتلك الحكومات القدرة على تشغيل الشركات وتلبية احتياجات المستهلكين. وقد لا يتسامح الناس العاديون مع الاضطراب، وقد لا تبررها كلفة العزلة المتكررة، التي تقاس بالرفاهية العقلية والصحة طويلة الأجل لبقية السكان.
وجد الخبراء أنه لو تُرك الفيروس ينتشر، فسيتسبب في هلاك نحو 2.2 مليون شخص، في أميركا، ونصف مليون في بريطانيا، بحلول نهاية الصيف.