طفل لم يتجاوز عمره الأربع سنوات، يحمل على جسده الصغير الضعيف وفي قلبه المهشم، أبشع صور الظلم التي سلطتها ومازالت تسلطها الألغام على أبناء جلدته في اليمن من مختلف الأعمار.
لا يتذكر الطفل أمير العامري، وهو أحد أبناء منطقة المطار القديم، بمديرية المظفر، في محافظة تعز، من الحادثة المروعة التي هزت مملكة طفولته وحولتها إلى أكوام من الرماد، سوى أنه كان يلعب حذو عمه وابن عمه، ولم تسعفه كلماته المتقطعة البريئة للتعبير عما حل به، لكنه ببعض العبارات والحركات قال أمير الكثير والكثير عن مأساته مع لغم غادر، وجعل الكلمات تنحني إجلالاً لما قاله على طريقته.
فبعيون شاردة يتزاحم فيها إحساس الخوف والحيرة والذهول والبراءة الغارقة في الحزن، يطيل أمير النظر إلى رجله المبتورة ويقول "هنا كان دم".. يمد أمير أطرافه السفلية على درج منزل أهله لكنه لا يجد جواباً لما يراه، فبالأمس كان يركض ويلعب ويتسلق الدرج بسرعة، واليوم لا يقوى إلا على الزحف لا غير.
عينا أمير الحائرتان تقولان "هناك شيء مفقود".. يطيل أمير النظر ويلمس رجله السليمة ومن ثمة يضع يده على رجله المبتورة فلا يجد إلا جزء منها، فقد اختفت بقية الساق السفلية والقدم والأصابع.
يعود أمير ليشرب من علبة العصير التي يمسكها بيده، وكأنه يسعى لكظم حزنه وابتلاع غصته، يرفع عينه للسماء وفجأة ينتابه إحساس عميق بالضجر من المكوث طويلا، فيطلق العنان لدموعه ولصدى صياحه ليمزق صمت المكان من حوله ويخرج شيئاً من الحيرة التي تسكن صدره.
يحمله والده بحنان كبير ويضعه في حضنه وكأنه يقول له لا تخاف أنا معك وسأساندك.. يرفعه ويطبطب عليه وتنهمر الكلمات من قلب الأب المكلوم، فيحكي عن مأساة ابنه طويلاً والحادثة التي هلك فيه أخوه وابن أخيه وفقد فيها طفله الغالي أمير رجله.
ينظر أمير لأبيه وهو يتحدث بسرعة عن الحادثة المروعة التي فقد فيها الكثير من أحبته، مطيلاً النظر إليه وهو يحكي ويتفاعل ويتألم ويتحسر ويعلن انكساره تارة وغضبه من زراع الموت الملغوم في اليمن تارة أخرى.
حينها حاول أمير وضع حد للقصة التي تبدو وكأنها تحرك فيه مشاعر مزعجة، فأطلق بعض الأصوات التي تكشف رغبته لشد النظر إليه وربما تغيير الموضوع، وقتها توقف الأب عن الحديث، ليقول لأمير "هل تتذكر كيف كان عمك حينما حدثت "الواوا في رجلك".. حينها أرسل أمير رأسه بعفوية على ساعد أبيه وأغمض عينيه وطرح يديه على الأرض، ممثلا بدقة مشهد وفاة عمه جراء الشظايا التي انبعث من اللغم واستقرت في رأس الهالك.
مشهد يحبس الأنفاس، فأمير لم ينسَ أي تفصيل من تلك الحادثة الشنيعة وملامحه وحركات جسمه تقول بكل بلاغة إنه لن ينسى ما رآه في ذلك اليوم مهما عاش على وجه الأرض، فالصدمة حفرت في ذهن أمير ووجدانه حادث الانفجار الملغوم وضحاياه بدقه مذهلة.
فأنى لطفل ذي أربع سنوات أن يمثل مشهد موت بهذه الدقة والعفوية والصدق، إذا لم تكن الصدمة كبيرة عليه ووقعها جلل في داخله وصورها الدموية لا تكاد تبارح مخيلته؟!
فأمير وبحركاته البريئة والبسيطة صور للعالم مقدار بشاعة الألغام وصنيعها بأطفال اليمن وتشويهها لأجسامهم وأحلامهم والزج بهم في زوايا الخوف والضياع والصدمة وسرقة طفولتهم بكل قسوة، فأي جريمة ارتكبها الطفل أمير ذو الأربعة أعوام ليكمل طريق حياته بجسد مشوه وقلب مكسور وخيال مسكون بالرعب الملغوم، وأي حجة سيسوقها زارعو الموت الملغوم في اليمن للتاريخ لتبرير مؤامرتهم على الحياة في اليمن وانخراطهم في أبشع جريمة دموية عرفتها البشرية على وجه الإطلاق.
جدير بالذكر أن مشروع "مسام" لنزع الألغام في اليمن قد أعلن في آخر تقرير شهري له، عن شهر ديسمبر 2022م، نتائج عملياته منذ انطلاق عمل المشروع في يوليو 2018 وحتى نهاية 2022، حيث بلغت 379 ألفًا و605 ألغام وذخائر غير منفجرة وعبوات ناسفة زرعتها ميليشيا الحوثي بعشوائية في مختلف المحافظات، وبلغ إجمالي المساحة المطهرة 42.644.021 متراً مربعاً.