بريطانيا ليست في أفضل أحوالها الاقتصادية، هذا ما عكسته الفترة الماضية، خاصة بعد تراجع قيمة الجنيه الإسترليني أمام العملات الأجنبية لأدنى مستوى له خلال 50 عاماً، إضافة إلى استقالة رئيسة الوزراء ليز تراس، بعد فوضى في طاقمها الحكومي.
اهتزاز للسوق وارتفاع ملحوظ في تكلفة المعيشة أربك حياة الشريحتين المتوسطة ومحدودة الدخل في بريطانيا بشكل كبير.
هذه الأزمة الاقتصادية لم تكن وليدة اللحظة، لذلك تطرح التساؤلات حول أسباب فشل الاقتصاديين والسياسيين في المملكة المتحدة في مواجهة الأزمة خاصة وأنهم يوصفون بالمحنكين والخبراء فأين ذهب التخطيط المسبق لتجنب الوصول إلى الكارثة الاقتصادية.
ويمكن تلخيص أسباب الأزمة الاقتصادية التي تضرب المملكة المتحدة في ثلاث نقاط هي الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا.
البريكست
خلال المرحلة الأخيرة من مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وضبابية المشهد آنذاك حول طريقة المغادرة باتفاق أو بدون، بدأ عديد الأوروبيين في مغادرة بريطانيا إما بالعودة إلى دولهم أو البحث عن عمل بديل خارج بريطانيا لضمان البقاء في وضع قانوني من حيث الإقامة والعمل من دون أي قيود جديدة. وهو ما تسبب لاحقاً في نقص حاد في الموظفين في بعض المهام الأساسية وعطل الإنتاجية.
الأهم يكمن في طريقة الخروج، حيث قال بنك إنجلترا أواخر العام 2019 وخلال احتدام مفاوضات الخروج وتهديد رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون بالمغادرة بدون اتفاق إذا تمسكت بروكسل بشروطها قال البنك، إن الخروج بدون اتفاق سيؤدي إلى انكماش اقتصادي لا يمكن للبنك مواجهته، بينما إذا تم الخروج باتفاق فإن البلاد ستدخل في ركود اقتصادي محدود يستطيع البنك المركزي إخراج البلاد منه خلال خمس سنوات في أسوأ الأحوال.
تم الخروج رسمياً باتفاق في 31 يناير 2020 لتبدأ البلاد مرحلة سياسية واقتصادية جديدة صعبة، ولكن مع استعداد مسبق حسب التأكيدات السياسية والاقتصادية، هذه الضربة لم تكن متوقعة على غرار ملف الخروج من الاتحاد الأوروبي، وما ضاعف من حدتها أنها جاءت بالتزامن مع انتهاء علاقة لندن رسمياً بالتكتل الأوروبي.
المحلل الاقتصادي أنور القاسم قال لـ «البيان»، إن عدم التزام الولايات المتحدة الأمريكية بتعهداتها إقامة اتفاقيات اقتصادية كبيرة مع بريطانيا بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي أضر كثيراً باقتصاد المملكة المتحدة.
التراجع الأمريكي جاء بسبب «كورونا» الذي ضرب العالم سريعاً وأثر على اقتصادات الدول الكبرى بشكل ملحوظ.
وبالتزامن مع ذلك دعمت الحكومة البريطانية الموظفين والشركات بالأموال للحفاظ على الأعمال، حيث يرى المحلل الاقتصادي أنور القاسم أن مبلغ 540 مليار جنيه إسترليني التي قدمتها الحكومة للأفراد والموظفين والشركات كمساعدات خشية من ارتفاع نسبة البطالة.
خطوة وإن كانت إيجابية لحماية الأعمال، إلا أنها تسببت في تراجع حاد للاقتصاد لاحقاً بسبب العجز في السيولة ولجوء الحكومة إلى الدين الداخلي والخارجي.
وبلغ الناتج القومي الإجمالي البريطاني تريليونين وثلاثمئة مليار دولار، في حين تجاوز حجم الدين البريطاني الناتج القومي ليصبح 103%.
أزمة أوكرانيا
تعد الحرب المستمرة في أوكرانيا منذ فبراير الماضي الضربة الثانية غير المتوقعة التي واجهت بريطانيا والعالم، حيث تسببت في ارتفاع حاد في أسعار الطاقة وبخاصة الغاز، وحاولت المملكة المتحدة كغيرها من الدول البحث عن بدائل لها، إلا أنها اصطدمت بعامل الوقت والتكلفة. الارتفاع في الأسعار شمل تباعاً جميع أصناف المواد الأساسية لأكثر من ثلاثة أضعاف السعر الطبيعي في المتوسط، إضافة إلى ارتفاع أسعار العقارات. أزمات تسببت في تضخم غير مسبوق مسجلاً أرقاماً قياسية.
حيث بلغت قيمة التضخم حتى منتصف شهر أكتوبر الجاري 10.1%، بينما كانت التوقعات بداية العام بعد اعتماد تداعيات أزمة الخروج من الاتحاد الأوروبي دون مفاجآت فيروس كورونا والحرب في أوكرانيا، تقول إن التضخم سيصل نهاية العام إلى 5.5%.
قبيل هذه الأزمات وبشكل خاص أزمتي «كورونا» وحرب أوكرانيا كان من المتوقع أن ينمو الاقتصاد البريطاني تدريجياً وبشكل طفيف. لكن الحقيقة حالياً هو أن البلاد تشهد ركوداً اقتصادياً بعد تقلص الاقتصاد فيها خلال الربعين الأخيرين من العام الجاري.
محاولات التعافي
حاولت الحكومة البريطانية الجديدة إخراج البلاد من الأزمة عبر خطة مالية عاجلة مبنية على تقليل الضرائب وزيادة النفقات العامة، إلا أن هذه الخطة ضاعفت من إرباك السوق وتراجع قيمة الجنيه بشكل كبير، الأمر الذي أدى في النهاية إلى إقالة مستشار وزارة المالية كواسي كوارتينغ وتعيين وزير جديد وهو جيرمي هانت الذي جاء بخطة معاكسة مبنية على الإبقاء على الضرائب وإلغاء المساعدات المقدمة على فواتير الطاقة بعد أبريل من العام المقبل، مع العمل على آلية جديدة، قبل أن تستقيل لاحقاً رئيسة الوزراء ليز تراس. المؤشرات الأولية للخطة جيدة.
حيث ارتفعت قيمة الجنيه وعائدات السندات الحكومية، لكن على الرغم من ذلك لا يمكن اعتبار الخطة مقبولة من قبل البريطانيين، خاصة وأنها تبقي الضرائب وتقلص المساعدات، وليس من المؤكد استمرار الحكومة المقبلة في الخطة نفسها.
في تقييمه للخطة الجديدة لمستشار وزارة المالية في الحكومة المستقيلة، جيرمي هانت، قال المحلل الاقتصادي محمد حيدر لـ «البيان»، إن الخطة انعكست بشكل إيجابي على الاقتصاد البريطاني بعد استعادة الجنيه الإسترليني لجزء من قيمته بعد أن خسر 22% من قيمته خلال أكتوبر الجاري ومعه ارتفعت أسواق المال والأسهم بنسبة 1.5%. لكن على الجانب الآخر، يرى حيدر أن الخطة سلبية تجاه المواطن لأنها لا تساعده على تحمل أعباء العيش وتكاليف الحياة المتضاعفة، بل تزيد الفائدة والضرائب.
فالخطة تخدم الشركات والبنوك وأسواق المال لكنها لا تراعي صعوبة الحياة للمواطن بشكل خاص أصحاب الدخل المتوسط والقليل. وهذا ما بات ملاحظاً من حجم الإضرابات التي يقوم بها الموظفون ونقاباتهم العمالية للمطالبة بتحسين الرواتب لمواجهة ارتفاع تكلفة المعيشة.