في منتصف سبتمبر 2019 المنصرم أعلنت صحيفة إكسبريس التابعة لواشنطن بوست مغادرتها عالم الصحافة الورقية وعنونت لعددها الأخير : " نتمنى أن تستمتعوا بجوالاتكم الكريهة " !!
وفي 31 ديسمبر (كانون الأول) 2012 وضعت مجلة "نيوزويك الأمريكية" على غلاف آخر عدد لها ثلاث كلمات: "آخر عدد مطبوع" وأشارت إلى موقع المجلة في الإنترنت، وإلى صفحتها في موقع "تويتر"، وقد طبعت على غلافها الأخير صورة جوية غير ملونة تبدو حزينة لعمارة "نيوزويك" في نيويورك لتكتب في إفتتاحية العدد الأخير: "شيء لطيف ومرير! تمنو لنا التوفيق"، معلنة بهذه الخاطره وداعها عالم الصحافة الورقية وانتقالها إلى عالم الصحافة الإلكترونية على شبكة الإنترنت نتيجة لارتفاع كلفة إصدار الطباعة الورقية والنشر والتوزيع وانخفاض إيرادات الإعلان.
ونقلت مجلة "نيوزويك الأمريكية" نتيجة استقصاء قام به مركز “بيو” للأبحاث، يقول أن 39% من الأميركيين يستقون أخبارهم من مصادر إلكترونية. أي لا يقرأون الصحف والمجلات بنسختها الورقية بل ينقرون على حواسيبهم أيًا كانت ليقرأوا الخبر سريعًا محتوى وصورة. وتقول إدارة الصحيفة الأميركية إنها وصلت قمة في العمل الصحفي تمكنها من الوصول إلى قرّائها والتأثير بهم من خلال نسختها الإلكترونية العتيدة، بلا ورق ولا طباعة، “وهو ما كان متعذرًا قبل عامين”، كما ورد في بيان نيوزويك.
أيضا ذكر "جوان سينور" وهو أحد مديري مجموعة وسائل المبتكرات الإعلامية الدولية الإستشارية وهو يختتم كلمته في فعاليات المؤتمر الرابع والستين للصحافة العالمية والمنتدى التاسع عشر للمحررين العالميين في كييف في سبتمبر 2012 م قائلا: أنه لا جدوى بل ومن غير المنطقي محاولة بيع الصحف المطبوعة في حين أن 80% من محتواها يتوفر مجاناً قبل نشره بيوم كامل، مضيفا إن القراء لا يريدون قراءة أخبار في الصحف مضى عليها 10 ساعات، إنهم يرغبون بالتجديد والإبتكار.
وعلى مستوى الدراسات العربية الصحفية المعاصرة حول مستقبل الصحافة الورقية أمام الصحافة الإلكترونية على شبكة الإنترنت أظهر استبيان لدراسة صحفية أجرتها مجلة «البيان» الإماراتية حول الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية، وشارك فيه 100 طالب وطالبة من الجامعيين، وذلك من خلال عدة أسئلة طرحت عليهم، بحثا عن إجابات بشأن المنافسة بين الوسيلتين ، بما يمثله التقليدي "الورقي" و"التقني الإلكتروني"، عبر المواقع المختلفة والوسائل المتنوعة، ورؤية جيل اليوم لمستقبل الصحافة بنوعيها، وايجابيات وسلبيات كل منهما.
فقد أشارت نتائج الإستبيان إلى أن نسبة قراءة الصحف الورقية بشكل دائم يمثل 24 % وأحيانا 64 %، وإطلاقها 12 %، بينما بلغت نسبة تفضيل الطلبة لقراءة الصحف الإلكترونية 22 % دائما، و52 %احيانا، و 26 % اطلاقا، وعن اقتناعه بإمكانية إلغاء الإلكترونية والورقية قال 16 % سيحدث ذلك بشكل دائم، و36 % احيانا، و48 % إطلاقا، لتصل النتائج في خاتمة الدراسة إلى أنّ الصحافة الورقية أقل حرية وأكثر مصداقية من الصحافة الإلكترونية.
وفي شهر أكتوبر المنصرم أكدّ "مؤتمر مستقبل الإعلام بعد الثورات العربية" المنعقد في كلية الإعلام بالجامعة الكندية بالقاهرة أنّ الصحافة الورقية تواجه الآن منافسة شرسة وقوية مما يتطلب وجود مؤسسات إعلامية قوية تتمتع بالكفاءة والقدرة علي الاستمرار واتخاذ القرار وهو ما يحتاج إلي دراسة شاملة للتحديات التي تواجه مستقبل الصحافة.
وقد تنبأ خبراء الصحافة والإعلام بمصير الصحافة الورقية فهذا "فرانسيس غوري" المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية إحدى منظمات الأمم المتحدة، فقد توقع أن تختفي الصحف الورقية من العالم تماماً بحلول عام 2040م ويتم استبدالها كلياً بوسائل رقمية، وقال فرانسيس إنه "خلال سنوات عدة لن نجد صحفاً مطبوعة كالتي نعرفها اليوم، والأمر سيعتبر تطوراً من دون أن يكون ذلك جيداً أو سيئاً. فهناك دراسات تعلن اندثار الصحف المطبوعة على مستوى العالم في عام 2040، أما في الولايات المتحدة فسيتم في عام 2017م.
لكن هل سنشهد فعلا وداع للصحافة الورقية والإنتقال بشكل كامل إلى عالم الصحافة الإلكترونية على شبكة الإنترنت بحيث نودع كل ما هو مطبوع ومسموع ومرئي ابتداءا من الكتاب؟ هل نحن فعلا أمام موكب جنائزي مهيب للصحافة الورقية نواري به مثواها الأخير ؟
الحقيقة أنه إذا تأملنا بدقة إلى ماهية الوسائط المتعددة التي أظهرتها لنا تكنولوجيا الإتصال الحديثة في عصر ما بعد التفاعلية سنجد أنه ليس كل ما هو مستحدث جديد مهما كان نوعه وفكرته وفلسفته وآليته وجمهوره سوف يقضي على القديم المتهالك ويقوم بدفنه إلى الأبد.
فكما أنّ الصحيفة الورقية التي رأيناها في مطبعة "غوتنمبرغ" لم تلغي لنا الكتاب، أيضا فإن السينما لم تقتل المسرح لتحل محله مقارنة بالتقنية الحديثة التي تمتلكها السينما أمام المسرح، كما أن الراديو لم يقض على الصحافة المكتوبة بل تغذى عليها واستفاد منها وأعطاها حيوية وتجديدا أمام الجمهور، وكما أن التلفزيون لم يتسبب في اختفاء الراديو من المشهد الإعلامي نظرا لما يملكه التلفزيون من امكانية الصوت والصورة والفيديو في آن واحد بل استفاد كل من الآخر ليكمل أحدهم الآخر.
كذلك فإن شبكة الإنترنت والوسائل الرقمية الحديثة والكتب الإلكترونية وغيرها لن تشكل تهديدا يقضي على وجود الكتاب الورقي، فكل وسيلة إعلامية من هذه الوسائل تكمل الوسيلة الأخرى ولكل وسيلة إعلامية جمهورها ومحبيها الذي يظلون متمسكين بها مهما عصف بها الزمن فتظل حاضرة في قلوبهم وفي واقعهم المعاش.