
يبدو أن الوصفات الإيطالية التقليدية لطهو المعكرونة لم تكن خاطئة تماماً، لكنها، كما يقول العلماء، كانت تفتقر إلى الدقة العلمية.
ففي دراسة جديدة أجرتها "جامعة لوند السويدية" ونُشرت في مجلة Food Hydrocolloids المتخصصة في علوم الغذاء، اكتشف الباحثون أن ما يفعله معظم الناس حول العالم أثناء تحضير طبقهم المفضل من السباغيتي أو البيني، بعيد جداً عن "الطريقة المثالية"، وأن الخطأ الأكثر شيوعاً كان قلة الملح في ماء السلق.
أكثر من "رشّة" ملح…
كما أوضحت الدراسة، أن الكمية المثالية من الملح هي 7 غرامات لكل لتر من الماء، أي أكثر من ملعقة صغيرة ممتلئة؛ وهي نسبة تفوق ما يضيفه معظم الطهاة المنزليين بثلاثة أضعاف تقريباً، وفق نما نقلت صحيفة "ديلي ميل"
وفي السياق، قال الدكتور أندريا سكوتي، أستاذ الكيمياء الفيزيائية في "جامعة لوند"، الذي نشر مقالاً تفصيلياً في موقع The Conversation: إن "الملح لا يجعل المعكرونة لذيذة فحسب، بل يغيّر بنيتها المجهرية أثناء الغليان، فيحافظ على صلابتها ومنعها من التفتت أو التحول إلى كتلة لزجة". وأضاف أن إضافة الكمية الصحيحة من الملح تحافظ على توازن دقيق بين الماء والنشاء والغلوتين داخل خيوط المعكرونة، ما يمنحها القوام المعروف بـ al dente، أي "مطهية لكن متماسكة"، الذي يعشقه الإيطاليون ومحبي المعكرونة.
العلم يفسر سر الـ10 دقائق
وباستخدام مسرّعات جسيمات وتقنيات تصوير بالنيوترونات، حلّل الفريق السويدي كيف تتفاعل جزيئات النشاء والبروتين أثناء الغليان.
فيما أظهرت النتائج أن عشر دقائق هي المدة الذهبية للطهي.. فقبلها تكون المعكرونة قاسية، وبعدها تبدأ بنيتها بالانهيار تدريجياً. أما عند زيادة زمن الغليان أو استخدام ماء مالح جداً، فيبدأ النشاء بالتحلل ويتسرب من الخيوط، ما يجعل المعكرونة لزجة وتفقد شكلها.
وأوضح سكوتي أن هذا التفاعل يعتمد على وجود الغلوتين، وهو البروتين الطبيعي في القمح الذي يعمل كشبكة مرنة تحافظ على تماسك العجين أثناء الغليان.
كما أضاف أن "الغلوتين أشبه بشبكة أمان تحمي النشاء من الذوبان الكامل، ولهذا السبب المعكرونة التقليدية أكثر متانة من تلك الخالية من الغلوتين".
مأزق المعكرونة الخالية من الغلوتين
أما النتائج الأكثر دراماتيكية فكانت للمعكرونة الخالية من الغلوتين، إذ وجد الباحثون أن هذه الأنواع تتفكك بسرعة أكبر عندما تُطهى لفترة أطول أو في ماء مملح بكثرة. فالبدائل المستخدمة في تصنيعها، مثل نشاء الأرز أو الذرة، لا تشكّل شبكة مرنة كافية لتحمل الحرارة أو الأملاح العالية.
وأشار الفريق إلى أن طهو هذه الأنواع يجب أن يتم بدقة شديدة، لأن فارق دقيقة واحدة قد يعني الفرق بين طبق ناجح وآخر منهار تماماً.
هذا ويأمل الباحثون أن تساعد نتائجهم على تطوير معكرونة خالية من الغلوتين أكثر صلابة، لتلائم المستهلكين الذين يعانون من حساسية القمح أو مرض السيلياك.
الملح... بطل غير متوَّج
إلى ذلك، أوضحت الدراسة أن الملح في ماء السلق لا يضيف فقط نكهة، بل يغير الخصائص الفيزيائية للمعكرونة على المستوى الذري، من خلال التحكم في توازن الماء داخل بنية الغلوتين والنشاء.
وأشار الباحثون إلى أن كثيراً من الطهاة المحترفين حول العالم -خصوصاً في المطاعم الإيطالية الرفيعة- يطبقون هذه القاعدة فعلياً من دون وعي علمي كامل، إذ يستخدمون عادة ملعقة صغيرة ونصف لكل لتر ماء، وهي قريبة من النسبة التي توصلت إليها الدراسة.
العلم يدخل المطبخ
في حين أثارت النتائج اهتماماً واسعاً في الأوساط العلمية والإعلامية، إذ كتبت "دايلي ميل" البريطانية أن الدراسة "تقدّم أخيراً تفسيراً علمياً لتوصيات الطهاة الإيطاليين التي اعتبرت لسنوات مجرد ذوق". وقال سكوتي في ختام تصريحه: "ربما يبدو الحديث عن الملح في المعكرونة ترفاً علمياً، لكنه في الحقيقة مثال رائع على كيفية استخدام أدوات الفيزياء لفهم الحياة اليومية. فالطبخ علمٌ مخفي في كل مطبخ".
وهكذا، يثبت العلم مرة أخرى أن أسرار المطبخ الإيطالي لا تُقاس بالملاعق فقط، بل بالميكروسكوبات أيضاً.